للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانَ بعضُ الصَّالحينَ يُكْثِرُ الصَّومَ، فرَأى في منامِهِ كانَّهُ دَخَلَ الجنَّةَ، فنُودِيَ مِن ورائِهِ: يا فلانُ! تَذْكُرُ أنَّكَ صُمْتَ للهِ يومًا قطُّ؟ قالَ: إي واللهِ؛ يومٌ ويومٌ ويومٌ. فإذا صَوانِيُّ النِّثارِ (١) قد أخَذَتْهُ يمنةً ويسرةً.

كانَ بعضُ الصَّالحينَ قد صامَ حتَّى انْحَنى وانْقَطَعَ صوتُهُ (٢)، فماتَ، فرُئيَ بعضُ أصحابِهِ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ:

قَدْ كُسِي حُلَّةَ البَهاءِ وَطافَتْ … بِأباريقَ حَوْلَهُ الخُدَّامُ

ثُمَّ حُلِّي وَقيلَ يا قارِيَ ارْقَهْ (٣) … فَلَعَمْري لَقَدْ بَراكَ الصِّيامُ

وصامَ بعضُ التَّابعينَ حتَّى اسْوَدَّ مِن طولِ صيامِهِ!

وصامَ الأسودُ بنُ يَزيدَ (٤) حتَّى اخْضَرَّ جسمُهُ وأصْفَرَّ، وكانَ إذا عوتِبَ في رفقِهِ بجسدِهِ؛ يَقولُ: كرامةَ هذا الجسدِ أريدُ!

وصامَ بعضُهُم حتَّى وَجَدَ طعمَ دماغِهِ في حلقِهِ!

وكانَ بعضُهُم يَسْرُدُ الصَّومَ، فمَرِضَ وهوَ صائمٌ، فقالوا لهُ: أفْطِرْ، فقالَ: ليسَ هذا وقتَ تركٍ!

وقيلَ لآخرَ منهُم وهوَ مريضٌ: أفْطِرْ، فقالَ: كيفَ [أفطِرُ وَ] أنا أسيرٌ لا أدْري ما يُفْعَلُ بي (٥)؟

ماتَ عامِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن الزُّبَيْرِ وهوَ صائمٌ وما أفْطَرَ.

ودَخَلوا على أبي بَكْرِ بن أبي مَرْيَمَ وهوَ في النَّزعِ وهوَ صائمٌ، فعَرَضوا عليهِ ماءً


(١) الصوانيّ: جمع صينيّة؛ معروفة. والنثار: ما ينثر في الأفراح من السكاكر والمكسّرات ونحوها.
(٢) على سبيل المبالغة، والبشر جميعًا ينحنون وتضعف أصواتهم عند الكبر. فإن كان الصوم هو الذي أحنى ظهره وقطع صوته فعلًا؛ فتعمّق وتنطّع وغلو ورغبة عن الحنيفيّة السمحة التي جاء بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
(٣) كذا! والرجل مذكور بكثرة الصوم لا بكثرة قراءة القرآن! حتّى أهل البرزخ لا همّ لهم إلّا متابعة القوافي والأوزان على حساب المعاني!
(٤) في خ وم: "الأسود بن زيد"! وهو تحريف صوابه ما أثبتّه.
(٥) كيف؟! كما أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر وعثمان وعلي … فهذا وما قبله إن سلم من الحشو والمبالغة؛ فأحسن الظن بأصحابه أنهم لم يبلغهم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. قال الذهبي في "النبلاء" (٤/ ٥٢) معقّبًا على قصّة الأسود المتقدّمة: "كأنه لم يبلغه النهي عن ذلك".

<<  <   >  >>