«وجد هؤلاء الاستعماريون أن الخطوة الأولى في سبيل السيطرة على لبنان تستوجب استثمار الطائفية فيه - في إثارة طائفة على أخرى، وفي رعاية طائفة ضد أخرى. لذلك غذى هؤلاء الطائفية ونموها وتعهدوها بأموالهم ودهائهم، بحيث أخذت الطائفية مفهومًا جديدًا، وأصبحت، لدى الكثيرين، مجرد وليدة لهذه التغذية الاستعمارية الآثمة. وأخذ رجال الحكومات الأجنبية، من وزراء وقناصل وعمال مأجورين، الدور الذي كان لرجال الإقطاع في العصور الوسطى ... دور التستر وراء قناع الطائفية، لتحقيق الأطماع الجزئية.
بدأت هذه المرحلة في القرن التاسع عشر. وقد بزغ هذا القرن أثناء ولاية الأمير بشير الثاني، الملقب بـ " الكبير ". وقد اعتمد الأمير المذكور على الطائفية، كوسيلة للمحافظة على نفوذه في الشعب، أكثر من أي لبناني آخر. وحفل عصره بالمؤامرات الطائفية، العلنية والخفية، التي كان هو يحيكها، لوحده، أو بتعاونه مع الدول الأجنبية، ليلهي الشعب عن الثورة عليه، ويؤمن لسيادته الامتداد الذي يريده.
وكانت فرنسا تعتبر نفسها حامية المسيحيين في الشرق، وخاصة الموارنة في لبنان، بمقدار ما كان المورانة يعتبرونها صديقتهم الكبيرة الأولى. فقد جرت التقاليد في البلدين على اعتبار الصداقة المارونية والفرنسية في غاية العراقة، تدعمها القرون الطويلة، وتجعل فرنسا لا تقبل منافسة دولة أخرى في هذه الصداقة، وتجعل الموارنة لا يقبلون منافسة طائفة أخرى في الولاء لفرنسا.
ودعمت فرنسا هذه العلاقة السياسية المتسترة بثوب ديني بتعهد العلاقات التجارية والإرساليات التبشيرية بين لبنان وفرنسا. فقد ضاعفت فرنسا عنايتها بأمور التجارة، وأرسلت القناصل وأسست المكاتب والمراكز الثابتة لتسهيل أمورها. وكانت فرنسا منذ ١٥٢٠ قد حاولت ضم لبنان إليها بالقوة، للحصول على ثروته وكنوزه، حينما أرسلت أسطولاً يتألف من خمس عشرة سفينة إلى سواحل لبنان، إلا أن مسلمي ودروز السواحل هاجموا الجنود الفرنسيين وطردوهم ...
أما التبشير فكان الميدان الأوسع لإنماء العلاقات الطائفية ... وبدأت الإرساليات تفد إلى لبنان منذ القرن الثالث عشر ... ورعى ملك فرنسا بنفسه شؤون التبشير، في ذلك القرن، واهتم ببناء الكنائس. وبدأت فرنسا تستقبل رجال الدين اللبنانيين وتعلمهم في