للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا ريب في أن تهريب «حَشِيشَةَ الكِيفْ» (الحشيش) إلى مصر لم يكن سببه براعة المهربين المحليين فقط وعجز الإنجليز عن اكتشاف وسائل التهريب. وقد ظهر الآن وراء كل شك أن عمليات التهريب الكبرى تستند إلى مساعدات دولية هامة.

أما لماذا يستجيز الأوروبيون إفساد الشعوب في آسيا وأفريقيا فليس ذلك فقط لأنهم يحبون الكسب والسيطرة، بل لأنهم يعتقدون أن الشعوب الملونة أقل منهم قدرًا في سلم الإنسانية. من هذا الاعتقاد نشأت فلسفة أوروبا في الاسترقاق والاستعمار.

منذ أوائل القرن السادس عشر للميلاد بدأ البرتغاليون تجارة الرقيق، ثم تبعتهم في ذلك دول أوروبا. وبلغ الاتجار بالزنوج مداه في بريطانيا، حتى أن الملكة (إليزابت الأولى) شاركت الجلابين في تجارتهم هذه وأعارتهم بعض سفن أسطولها. وتطلبت إنجلترا عذرًا للاتجار بالرقيق السود فتبرع لها به رجال الدين. لقد وجدوا في " التوراة " (١) «أَنَّ حَامْ بْنُ نُوحٍ كَانَ قَدْ أَغْضَبَ أَبَاهُ، قِيلَ: إِنَّ نُوحًا سَكَرَ يَوْمًا فَتَعَرَّى وَنَامَ فِي خَبَائِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَهُ حَامًا أَبْصَرَهُ عَلَى هَذِهِ الحَالِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ وَعَلِمَ أَنَّ حَامًا قَدْ أَبْصَرَهُ عَارِيًا دَعَا عَلَيْهِ وَلَعَنَ نَسْلَهُ الذِينَ هُمْ كَنْعَانُ وَقَالَ بِلَفْظِ " التَّوْرَاةِ ": " ... مَلْعُونٌ كَنْعَانُ. عَبْدُ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ ". وَقَالَ مُبَارِكُ الرَّبِّ: " إِنَّهُ سَامٌ ". وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ (٢). ليفتح الله ليافث فيسكن مساكن سام. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ». وبما أن الأوروبيين يعتقدون أنهم أبناء (يافث) وأن الزنوج هم أبناء (كنعان بن حام) فقد أفتوا بأن استعباد الزنوج مباح، أو هو واجب بلفظ " التوراة "، و" التوراة " أساس الدين. والغريب في ذلك أن الأوروبيين قد وصلوا إلى القرن العشرين من تاريخ المدنية ولا يزالون يعتقدون، وخصوصًا الإنجليز والأمريكيين، أن الرقيق مباح وأن الاتجار بالبشر كالاتجار بالقطن والدجاج. على أن الأوروبيين يحرمون الرقيق في المؤتمرات والصحف والمجلات، ولكنهم يسترقون الناس ويهدرون الكرامات فعلاً كل يوم. ومعاملة الإنجليز والهولنديين للزنوج والهنود معروف (٣). أما معاملة الأمريكيين البيض للأمريكيين السود في الولايات المتحدة نفسها فقد بلغ من السوء والفظاعة والهمجية ما خرج عن طوق الخيال، وامتلأت به الصحف والمجلات والكتب، إلا الضمير الأمريكي فإنه لا يزال متسعًا هادئًا، لا هو يطفح بتلك الفظائع ولا هو يتحرك عند رؤيتها تمثل كل يوم أمام عينيه.


(١) " سفر التكوين ": ٩/ ١٨ - ٢٧.
(٢) " سفر التكوين ": ٩/ ٢٦.
(٣) يطالع القارئ بلا ريب كثيرًا من أخبار النزاع العنصري الشعبي والرسمي في جنوب أفريقيا.

<<  <   >  >>