أو الديني، أخطأوا في ذلك أم لم يخطئوا، وليس من غايتنا في هذا الكتاب أن نتعرض للتبشير كحركة دينية يقع فيها التنازع، ولكننا نريد أَنْ نُبرِزَ الصلة الموجودة في معظم الأحيان بين التبشير في صوره المخلتفة وبين التمهيد للنفوذ الأجنبي ثم بين التبشير وبين تثبيت هذا النفوذ في العالم العربي، والواقع أن هذه الصلة موجودة وبارزة جِدًّا.
ومما يلاحظ أن بريطانيا وفرنسا حرصتا، قبل أن تخرجا مضطرتين من عدد من مستعمراتهما الأفريقية، على أَنْ تُمَهِّدَ في كل دولة أعطيت استقلالها السياسي، لمجيء رجل صابئ إلى رئاسة الدولة في المستعمرة المستقلة حديثًا. إنهما تعتقدان أن الصابئ يكون أميل إلى السياسة الغربية من غير الصابئ، ذلك لأن المسيحية في رأيهما تجمع بين ذلك الصابئ وبينهما أكثر مما تجمع بين الصابئ وبين قومه الأولين من المسلمين أو الوثنيين، ومع أننا عرفنا نفرًا من هؤلاء قد خَيَّبُوا ظَنَّ بريطانيا وفرنسا في ذلك، فإن نفرًا آخرين كانوا كما شاءت بريطانيا وفرنسا. ولعل القطعة التالية المأخوذة من مجلة " روز اليوسف "(١)، مع شيء من التلخيص والتصرف، تمثل الحال الثانية تمثيلاً صحيحًا:
توقّع البعثات التبشيرية في السنيغال مع عدد من الأسر السنيغالية الفقيرة عقودًا تقدم بموجبها تلك البعثات التبشيرية إلى الأسر السنيغالية مساعدات عينية (ضئيلة) من أرز مثلاً في كل شهر على أن يكون لها حق باختيار طفل من أطفال الأسرة تربية على حسابها. ويكون في العقد مادة تَنُصُّ على أن الأسرة مجبرة على رَدِّ ثَمَنِ المساعدات وعلى دفع نفقات ابنها ونفقات تعليمه إذا هي خالفت شروط العقد (بطلب استرداد ابنها مثلاً).
وتختار البعثة التبشيرية من أطفال تلك الأسرة صبيًا دون الخامسة من العمر ثم ترسله إلى مدرسة (تبشيرية طبعًا). وينقطع الصبي عن أهله وَيُنْشَأُ تَنْشِئَةً مَسِيحِيَّةً ثُمَّ يُرْسَلُ إلى فرنسا لاتمام علمه العالي. بعدئذٍ يُعَادُ إلى السنيغال ليستخدم في الأغراض التي توافق هوى فرنسا.
وحينما يعود الصبي السنيغالي الذي أصبح رجلاً مسيحيًا فرنسيًا إلى السنيغال يمنح حق المواطن الفرنسي في المستعمرات من حيث المستوى الاجتماعي والوظائف. ويضرب كاتب المقال في مجلة " روز اليوسف "(في العمود الرابع، الأسطر ٤١ - ٤٤) على ذلك مثلاً فيقول: «أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَلِمَةَ " سَانْجُورْ "(اسْمُ رَئِيسِ جُمْهُورِيَّةِ السِّنِيغَالْ الحَالِي) مَعْنَاهَا
(١) القاهرة، السنة ٣٩، العدد ١٨٤٧، بتاريخ الاثنين في ٤ - ١١ - ١٩٦٣، الصفحة ٢٦.