للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودقائقه! وليتهم -أعني هو وأمثاله- اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، (١) وما أمَر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوّى به سواه. وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- على هذه الآية، فإنّه أفاد وأجاد (٢) . وتأمّل ما ذكره الفقهاء في حكم العجزة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه (٣) ، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنّهم مسلمون من أهل القبلة المحمّدية؟!

وصاحب هذا القول الذي شبّه عليكم، ينزل درجة درجة، أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية، والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهليّة؛ ثمَّ لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزيّن عند المسلمين-بحمد الله-على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة، والوليمة، والتحف، والهدايا، والمجالسة


(١) ولا شك أن هذا من أسوأ ما يصل إليه المرء في دينه، إذ إنّ الوعيد على هذا الحال شديد. فقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٣٧-٤١] .
(٢) انظر كلامه في رسالته: شرح ستة مواضع من السيرة، ضمن" الجامع الفريد"، ص٢٥٠-٢٥١. فقد قال-رحمه الله-:" إنّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لم يهاجر-من غير شك في الدين، وتزيين دين المشركين-ولكن محبّة للأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، وقتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلمّا سمع الصحابة أنّ من القتلى فلاناً وفلاناً، شقّ عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ] إلى قوله تعالى {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:٩٧-٩٩] . فمن تأمّل قصتهم، وتأمّل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، علم أنه لو بلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، فإنّ الله تعالى قد بيّن لهم-وهم فبل الهجرة-أنّ ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:١٠٦] .
(٣) المسألة تقدمت في ص٢١٠-٢٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>