يعلم ذلك العاقل إذا منعه الله تعالى من القياس الشرعى قلنا لو منعنا الشرع النظر في المعانى أصلا لم يعلم ذلك فإن قيل قوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة: ٧] فإن ما اقتضاه اللفظ من الذرتين فما فوقهما إنما هو قضية الاسم لا قضية المعنى لأنه ذرة وذرة إلى أكثر من ذلك قلنا: قد يكون ذرة ونصف ذرة فلا يمكن التعلق بالاسم وهذا الذى قلناه غاية ما يمكن أن يقال: في هذه المسألة لكن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظى وليس فيها فائدة معنوية وبعد أن وافقونا في المعنى الذى قلناه فلا نبالى أن يسمى ذلك قياسا او لا يسمى وإنما بالغنا في إثبات الذى ادعيناه مع أنه ليس للخلاف فيه فائدة معنوية نصرة للشافعي فإنه قد نص في موضع أنه قياس مع وصفه بالجلاء والظهور
وقد قيل: إن القياس الجلى ثلاثة أقسام:
أولها: ما عرف من ظاهر النص بعد استدلال ولا يجوز إيراد التعبد به بخلاف أصله وقد بينا مثال ذلك.
والقسم الثاني: ما عرف معناه بظاهر النص من غير استدلال لكن يجوز إن يرد التعبد فيه بخلاف أصله مثل النهى عن التضحية بالعوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها فكانت العمياء قياسا على العوراء والقطعاء قياسا على العرجاء وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم العوراء أو العرجاء وإباحة العمياء والقطعاء ومثل هذا أيضا نهى المحرم أن يلبس ثوبا مسه الورس والزعفران فكان الكافور والمسك على الزعفران والورس وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم الورس والزعفران وإباحة المسك والكافور.
والقسم الثالث: ما عرف معناه من ظاهر نص باستدلال ظاهر فعرف بمبادئ النظر مثل قوله تعالى في زنا الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء: ٢٥] فجعل حدهن نصف حد الحرائر ولم يكن المعنى إلا نقصهن بالرق وكان العبد قياسا عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا لنقصهم بالرق ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد" ١ كما بينا ومثاله أيضا قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}[الجمعة: ٩] وكان معنى نهيه تعالى عن البيع أنه شاغل عن الجمعة فصار عقود المناكح والإجارات وسائر المعاملات والصنائع نهيا عنها قياسا على البيع لأنه شاغله عن حضور الجمعة.