للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهكذا أخذ حافظ يناجي نفسه، ويحاول أن يخفف ما بها، ولكن ما لبث أن شم ريحًا كريهة "انقبض لها صدر الجو وتعبس بها وجه النهر، فلما أفاق من غشيته نظر فإذا أصل البلاء جيفة فوق وجه الماء، فغاظه ما رأى وهاجه ما شم وقال يخاطب النيل.

"ويحك إلى متى يسع حلمك جهل هذه الأمة المكسال، وإلى كم تحسن إليها وتسيء إليك، علمت أن سيكون منك الوفاء فلم تحرص على ودك، واتكلت على حلمك، وبالغت بعد ذلك في عقوقك، ولقد كانت ترتجو في سالف الدهر خيرك، وتتقي شرك، فتحتفل في مهاداتك، وتتحامى طريق معاداتك، ثم أمعنت في العقوق فصيرتك مقبرة للجيف لتصبح بذلك مجرى للبلاء، ومستودعًا للوباء".

واستمر حافظ على هذه النغمة يعنف الأمة لجحودها وكفرانها، ويستطرد لذكر حاله، أو يشير إلى مآله فيقول: "ينبغ فيها النابغة، فينبعث أشقاها للطعن عليه فلا يزال يكيد له حتى يبلغ منه، ويكتب فيها الكاتب فينبري به سفيهها فلا يفتأ ينبح عليه حتى ينشب فيه نابه ويفسد عليه كتابه، ويشعر فيها الشاعر فيحمل عليه جاهل، فلا ينفك عنه حتى يغلبه على أمره، ويقهره على شعره.

يا رب أخرجني إلى دار الرضا ... عجلًا فهذا عالم منحوس

ظلوا كدائرة تحول بعضها ... عن بعضها فجميعها معكوس

هكذا ابتدأ حافظ كتابه هذا ليالي سطيح، حتى إذا سكت عن هذه المناجاة، وعزم على التحول من هذا المكان إلى سواه، وقع في سمعه صوت إنسان يسبح الرحمن، فاقترب منه عله يجد أحد العباد يستدعيه دعوة يمحو بها الله سوء ما هو فيه، فلما داناه إذا هو يقول: "أديب بائس، وشاعر بائسن دهمته الكوارث، ودهته الحوادث، فلم يجد له عزمًا، ولم تصب منه حزمًا، خرج يروح عن نفسه ويخفف من نكسته، فكشف له مكاني، وقد آن أواني. أي فلان! لقد أخرجت للناس كتابًا ففتحوا عليك من الحروب أبوابًا، وخلا غابك من الأسد، فتذاءب

<<  <   >  >>