للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهي طريقة تخالف كذلك النثر الصحفي الذي يكتب لساعته، ويخوض فيغمار المعارك السياسية، فلا يتأنى صاحبه في انتقاء الألفاظ وتجويد الجمل وصقل الأسلوب، ومع أن المنفلوطي قد درس الأدب القديم، وتخير أطايبه لغذاء نفسه وعقله، إلا أنه استطاع أن يفلت من ربقته إلى حد كبير فكيف تأتى له هذا؟

دعنا نستمع إليه وهو يحدثنا كيف تهيأت له هذه السبيل: "كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه، فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره، وروعة حسنه، ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني أو تقيوم لساني، أو تكثير مادة علمي باللغة والأدب، بل كل ما كان من أمري أنني كنت امرءًا أحب الجمال، وأفتن به كلما رأيته: في صورة الإنسان، أو مطلع البدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء أو رنة الحداء، أو مجتمع الأطيار أو منتثر الأزهار أو رقة الحس، أو عذوبة النفس أو بيت الشعر، أو قطعة النثر، فكنت أمر بروض البيان مرا فإذا لاحت لي زهرة جميلة بين أزهاره، تتألق عن غصن زاهر بين أغصانه، وقفت أمامها وقفة المعجب بها، الحاني عليها، المستهتر بحسن تكوينها، وإشراق منظرها، من حيث لا أريد اقتطافها أو إزعاجها من مكانها، ثم أتركها حيث هي، وقد علقت بنفسي صورتها إلى أخرى غيرها، وهكذا حتى أخرج من ذلك الروض بنفس تطير سرورًا به، وتسيل وجدًا عليه، وما هي إلا أن درت ببعض تلك الرياض بعض دورات، ووقفت ببعض أزهارها بعض وقفات حتى شعرت أني قد بدلت من نفسي نفسًا غيرها، وأن بين جنبي حالًا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فأصبحت أرى الأشياء بعين غير التي كنت أراها بها، وأرى فيها من المعاني الغربية المؤثرة ما يملأ العين حسنًا والنفس بهجة".

هام المنفلوطي بالأدب حبًا منذ حداثته، وقد حاربه شيوخه في الأزهر وحاولوا أن يقفوا بينه وبين كتبه الأدبية، فنفر منهم وازداد شغفًا به وعكوفًا عليه، وما إن آنس من نفسه القدرة على الإفصاح عما يجيش في صدره، وما يختمر في فكره حتى أشهر يراعه، ولم يضعه إلا حين وافته منيته.

<<  <   >  >>