للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منها الأخذن وما يترك التارك، فكان من همي أن أحمل الناس من أمرها على ما أحمل عليه نفسي، وأن أنقم من هؤلاء العجزة الضعفاء، وتهالكهم لها واستهتارهم بها، وسقوطهم بين يدي رذائلها ومخازيها وإلحادها، وزندقتها وشحها وقسوتها وشرها وحرصها وتبذلها وتهتكها، حتى أصبح الرجل الذي لا بأس بعلمه وفهمه إذا حزبه الأمر في مناظرة بينه، وبين من يأخذ برذيلة من الرذائل لا يجد بين يديه ما ينضج به عن نفسه إلا أن يعتمد عليها في الاحتجاج على فعل ما فعل أو ترك ما ترك، كأنما هو القانون الإلهي الذي تثوب إليه العقول عند اختلاف الأنظار والأفهام".

ولكن المنفلوطي وإن كان كما قال -قد نظر إلى مساوئها ومحاسنها فلم يذكر شيئًامن تلك المحاسن، بل كان يحرص على الابتعاد عنها ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلًا، ويقول في مقال بعنوان "المدنية الغربية":

"إن خطوة واحدها يخطوها المصري إلى الغرب تدني إليه أجله، وتدنيه من مهوى سحيق يعتبر فيه قبرًا لا حياة له من بعده إلى يوم يبعثون، لا يستطيع المصري وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدينة الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك خشاره ويفلت لبابه، أو الراووق من الخمر يحتفظ بعقاره، ويستهين برحيقه، فخير له أن يتجنبها جهده، وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب".

وقد أغرم المنفلوطي بالكتابة في الدعارة، والخيانة الزوجية والانتحار، وسقوط الفتيان والفتيات في مهواة الرذيلة، وانحراف بعض الأزواج عن جادة الدين والفضيلة، وهو يعز ومعظم هذا الفساد إلى تسرب المدينة الغربية إلى بيوتنا وأفكارنا وعاداتنا، وكان يلتقط أحيانًا الموضوعات التي يتناولها بالكتابة مما يتردد في الصحف من حوادث وأخبار، والصحف من همها نشر الخبر المثير، والفضائح الجذابة، وأنباء أبناء العلية، وهم قد ألفوا الخروج على العادات المألوفة، بسبب ما أخذوا من أسباب المدينة الغربية، وما جلبته من أوصاب رزئ بها المجتمع، مع أن التحلل من الأخلاق، واستشراء الفساد يصاحب المدنيات في كل عصر وكل بلد، وليس وقفًا على مدنية الغرب.

<<  <   >  >>