أتراه الحرص على ألا يشاهد أي انحراف مهما صغر شأنه عن جادة الصواب والحق والفضيلة، والدين هو الذي جعله يبالغ ويهول فيما يراه، أو يسمع به في هذه الانحرافات الصغيرة؟ أم أن التهويل غلب عليها فيما يتناوله من آفات المجتمع وسواه شأن ذوي العواطف المرهفة، وأصحاب المواعظ والخطب حين ينساقون مع عواطفهم، وحميا حماستهم ... يشكو له شاب أصابه الصمم الكامل يطلب منه كلمة غراء، وبدلًا من أن يواسيه ويخفف عنه ويلته، إذ به يحيل الدنيا أمام عينيه سوداء قاتمة، وذلك في مقالته "الزهرة الذابلة" حيث يمتلئ صدر الشاب بعد قراءة المقال يأسًا وقنوطًا، فلا يجد أمامه إلا الانتحار، بل إن المنفلوطي يحرضه عليه، ويدفعه إليه، وكان في قدرته أن يحيل يأسه إلى أمل وجزعه إلى صبر، ولنستمع إليه يقول له:"لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني فهو فوق ما يحتمل المحتمل، ويطبق الجلد الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، وأعوذ بالله أن أكون -يا بني- من الكاذبين في تعزيتك أو الغاشين لك فيها، ولو أردت نفسي على ذلك لما استطعت".
ولكننا نراه يقول له:"وكثير عليك يا بني وأنت زهرة يانعة في روض الشباب، وابتسامة لامعة في ثغر الآمال، وفجر مشرق في سماه الحياة أن تصعد على هذه الربوة الزاهرة المخضلة من ربى الحياة، فلا تلبث إلا قليلًا حتى يمر بك فارس الدهر، فيختطفك من مكانك ثم لا يعدو بك قليلًا حتى يلقيك على هذه الصخور الصماء، فوارحمتاه لك يا بني مما بك اليوم، ومما يستقبلك به الدهر غدًا".
فهل قدم المنفلوطي للفتى الذي جاءه مستغيثًا، يتطلب الكلمة الرطبة تنزل بردًا وسلامًا على قلبه الصادي فتخفف لوعته، وتزيل حسرته -الدواء الناجع، والتراياق النافع ... لا أظن.
وكان المنفلوطي في اجتماعياته يفرط في حنوه على المرأة، ويبالغ في ذلك مبالغة عجيبة، وينعي على الرجل قسوته وغلظته، وكان يكره الطلاق ويمقته -وهو على حق- وحتى إذا زلت المرأة، وساءت سيرتها، فإنه يلتمس لها