ثم أخذ المنفلوطي يعدد تلك المواطن الخاطئة التي يضع فيها المحسن إحسانه كإنشاء سبيل يشرب منه المارة، وليس بينهم وبين ماء النهر إلا بضع خطوات أو"يقف الضياغ الواسعة من الأرض لتنفق غلتها على أقوام من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الأبيات، وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، وهو يحسب أنه أحسن إليهم، ولو عرف موضع الإحسان لأحسن إليهم بقطع ذلك الإحسان عنهم علهم يتعلمون صناعة، أو مهنة يرتزقون منها رزقًا شريفًا".
ويحمل المنفلوطي بكل ما أوتي من قوة على أدعياء التصوف، مشايخ الطرق "ولو أنصفوهم -كما يقول- لسموهم قطاع الطرق، ولا فرق بين الفريقين إلا أن هؤلاء يتسلحون بالبنادق والعصي، وأولئك يتسلحون بالسبح والمساويك، ثم يسقطون على المنازل سقوط الجراد على المزارع، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا ولا خفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها، وبصلها إلا أتوا عليه".
ونراه ينكر أشد الإنكار إعطاء الدراهم للمتسولين ويقول:"ولم أر مالًا أضيع، ولا عملا أخيب، ولا إحسانًا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين"، ويبين خطر تشجيعهم بمنطق حاد وقوة أداء.
وقدم المنفلوطي في آخر مقاله مقترحات لتنظيم الإحسان، وذلك بإنشاء مجتمع يسمى "مجتمع الإحسان" يتألف من سراة الأمة ووجوهها وأصحاب الرأي فيها، وتكون مهمته -كما استخلصها من مقاله- لا تتعدى مهمة "بيت المال" في الدولة الإسلامية، في رعايته للفقراء وذوي الحاجات يجمع كل ما يجود به المحسنون، ويوزع بالعدل على المستحقين، أو كما تفعل "هيئة معونة الشتاء"، وإن تعداها لإنشاء الملاجئ والمستشفيات، وغير ذلك.
وهذه إحدى الصور التي كانت شائعة لدى المسلمين في عصورهم الذهبية، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث جبيت الزكاة في عهده، وبحثوا عمن يستحقها، فلم يجدوا أحدًا، ولو أن المنفلوطي دعا إلى أن يؤخذ المسلمون بالشدة