لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من القيود لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرًا له من الحياة لا يرى فيها شعاعًا من أشعة الحرية، ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها.
لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًا مطلقًا، لا يسيطر على جسمه وعقله، ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس".
هل حقًا تعد تلك المسألة من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها، أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانًا من الحرية من الحيوان الناطق؟
وما وجه الصعوبة في هذا الإدراك، وهي بديهة من البديهات، فالحيوان لا عقل له بقيده، وإنما يسير في حياته بوحي غريزته، لا هم له إلا أن يحافظ على حياته، ولو على حساب غيره من الحيوان، في حين أن الإنسان له عقل يهديه وينير له الطريق، هو اجتماعي بطبعه، لا يعيش في عزلة عن سواء فلا يعيش الناس حياة الحيوان يأكل القوي الضعيف، وإنما تنظم علاقاتهم النواميس الشرعية، والقوانين والعرف، تلك التي لا تعجب المنفلوطي ويريد أن يتحرر منها.
لست أدري من أين أتته هذه الفكرة! أغلب الظن أنها من وحي قراءته الغربية، والدعوة إلى الرجوع إلى الطبيعة والحياة الفطرية.
ولا نريد أن نلم بكل الموضوعات الأدبية التي طرقها المنفلوطي، فحسبنا ما ذكرناه منها، على أنه يكون في أحسن حالاته الأدبية في موضوعين، الموضوع الحزين، والرسائل، وقد مر بنا بعض تلك الموضوعات الحزينة في رثاثه لولده، وفي رثائة للشيخ علي يوسف، حيث بلغت عاطفته مداها، وارتفعت عبارته بما يتناسب مع تلك العاطفة.
وهاك مثالًا آخر على تلك المواطن الحزينة التي يجيدها المنفلوطي عاطفة، ومبني ألا وهو "غرفة الأحزان"، وإن استهل الموضوع بما يتناقض مع ما عرف به من انتقائه لأصدقائه، ومن تمسكه بأهداب الفضيلة حيث يقول: "كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه أكثر ما أحبه لصلاحه ودينه، فكان يروقني منظره، ويؤنسني