محضره، ولا أبالي بعد ذلك بشيء من نسكه وعبادته، أو فلسفته واستهتاره؛ لأنني ما فكرت قط أن أتلقى عنه علوم الشريعة، أو دروس الأخلاق".
وهذا تصريح عجيب من المنفلوطي في عدم احتفائه، ومبالاته بما عليه الصديق من خلق ولو كان غير قويم، وأعجب من ذلك التعليل الذي أورده في أنه لم يفكر في أن يتلقى عنه علوم الشريعة أو دروس الأخلاق، ومن قال إن الرجل الفاضل أستاذ في الشريعة أو علم الأخلاق؟! وقد يكون أستاذًَا لهما وليس فاضلًا في خلقه، ولا حافظًا لدينه!!، إنه يعترف بأن صديقه هذا له فلسفته الخاصة في الحياة وأنه مستهتر، فكيف رضي به المنفلوطي الذي طالما وعظ وحث على مكارم الأخلاق صديقًا، بل كيف أحبه؟
على كل ليس هذا هو بيت القصيد في حديثنا عن غرفة الأحزان، ومناظر الشقاء والبؤس، حين يتردى الإنسان في مهواة اليأس أو الفاقة، أو العجز، أو تكربه الأحداث، وتنتابه النوائب، ولا يملك لها دفعًا.
لقد افتقد هذا الصديق الذي أحبه ردحًا طويلًا من الزمن حتى اعتقد أنه لن يجد إليه بعد ذلك سبلًا، ويقول المنفلوطي: "هنالك ذرفت من الوجد دموعًا لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأصبح غرضًا من أغراض الأيام، لا تخطئه سهامها، ولا تغبه آلامها.
واعتقد أن هذا موقف مفتعل من المنفلوطي، فقد تناهى إليه من جيران صديقه هذا أنه ترك بيته من عهد بعيد، وأنهم لا يعرفون مصيره، وأنه وقف بين اليأس والرخاء برهة من الزمن يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه، فأيقن أنه قد فقد الرجل، "وهناك ذرفت ... إلخ"، والإنسان لا يبكي هكذا لمجرد الاستنتاج دون أن يكون منظر الميت أمامه يهيجه أو على الأقل يتحقق من وفاته، ولا سيما وقد طال الزمن على لقائهما.
ثم عثر على صديقه هذا بعد حين بطريق الصدفة، فيقول في شيء من التهويل والمبالغة: "بينا أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السراء، إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلال المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر إليه