والمنفلوطي قد قرأ -ولا شك- كثيرًا عن البخلاء: قرأ ما كتبه الجاحظ وما كتبه سهل بن هارون في رسالته المشهورة التي يدافع بها عن البخل.
وإذا رحنا نوازن بين ما كتب قديمًا، وما كتبه المنفلوطي نجد أنه لم يأت بجديد، وكل ما هنالك أنه عبث بصاحبه وساق آراءه في البخل مساق التهكم والسخرية، والتنذر على ذلك الحريص البخيل.
أما الرسالة الرابعة: فهي رسالة إلى صديق كبير يبين فيها المنفلوطي ما اعتراه من اليأس من هذه الحياة ومن فيها من الناس، وكيف استحالت هذه الحياة جحيمًا، ولهذا آثر العزلة حتى يوافيه أجله.
وتعتمد هذه الرسالة على وصف حالة اليأس التي يعانيها بالموازنة بينها وبين حال الأمل التي كان يطمع فيها، فإذا كان الأمل، جنة تغن أشجارها، وترن أطيارها، وتشتجر أغصانها، وتعتنق غدرانها، فاليأس هاجرة "تتلظى نارها، ويعتلج أوراها وتحول بين العيون واغتماضها، والجنوب ومضاجعها، والقلب يهبط به الخوف، فيتمشى بين الأضالع مشية الطائر الحذر".
أما حاله:"فتضرب كحال هذه الدنيا ما بين: "فرح وهم، وسرور وحزن، وقبض وبسط، ومد وجزر".
وهكذا يمضي يصور حالة القلق التي تعتوره: "اذكر الله ورحمته وإحسانه، ورأفته وحنانه، فيشرق لي من خلال ذاكره وجه الحياة الناضرة، وثغرها البارق وجمالها الساطع، وبشرها الضاحك، ثم اذكر الدهر وصروفه، والعيش وحتوفه، والأيام وما أعدت في طياتها لبنيها من عثرات في الخطوات، ونكبات في الغدوات والروحات، فألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي، ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا".
ويلجأ إلى الله، إما أن يستكرم برحمته فينقذه من بلائه ويريحه من عنائه، وإما أن يورده حتفه، ويأخذه إليه، "فيستخلصني من موقف أنا فيه كالمريض المشرف، لا هو حي فيرجى، ولا ميت فيبكى".