والعاطفة، وظن أنه بذلك يقول شعرًا:"الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ، تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه، وأطواره التي لا علاقة بينها وبين جوهره وصبغته".
ثم يقول:"أما الشعر فأمر وراء الأنغام والأوزان، وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلى في جيد الغانية الحسناء، أو الوشي في ثوب الديباج المعلم، فكما أن الغانية لا يحزنها عطل جيدها، والديباج لا يزري به أنه غير معلم، كذلك الشعر لا يذهب بحسنه وروائه أنه غير منظوم ولا موزون.
"ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر، وأمعنوا إمعانًا بعد به عن مكانه، وضل به عن قصده، وعندي أن أفضل تعريف له أنه تصوير ناطق؛ لأن قاعدة الشعر المطردة هي التأثير، وميزان جودته ما يترك في النفس من أثر، وسر ذلك التأثير أن الشاعر يتمكن ببراعة أسلوبه، وقوله خياله، ودقة مسلكه، وسعة حيلته من رفع ذلك الستار المسبل بيه وبين السامع، فيريه نفسه على حقيقتها حتى يكاد يلمسها ببنائه، فيصبح شريكه في حسه ووجدانه".
وهو يقرر هنا أن التأثير إنما يأتي عن طريق الأسلوب وقوة الخيال، لا عن طريق المعنى وحده الذي يدركه السامع أو القارئ، إذا كان الأمر وقفًا على التأثير وما يتركه في النفس، بدون نظر إلى النغم والموسيقى الشعرية لقلنا إن الخطابة كذلك تؤثر في النفس، والخطيب البارع يستطيع بقوة خياله، ودقة مسلكه، وسعة حيلته أن يرفع ذلك التسار المسبل بينه وبين السامع، ويملك عليه لبه، ويدفعه لعمل ما يريد، والأمثلة على ذلك عديدة في الأدبين العربي والغربي.
وكثير من الكتاب يصلون بكتابتهم إلى هذه الغاية، ومن ثم فلا فرق بين الألوان الأدبية ما دام التأثير هو الغاية، إن الوزن والنغم والموسيقى عناصر هامة في الشعر لدى كل الأمم وفي كل اللغات، وقد تجد في بعض القطع النثرية سمة أو أكثر من سمات الشعر، ويسمى ذلك شعرًا منثورًا، أو نثرًا شعريًا، ولكنه ليس الشعر على أية حال".
إن المنفلوطي في رأيه هذا غلا أكثر من هؤلاء الذين يصطنعون اليوم الشعر الحر، ففيه شيء من النغم والوزن على الأقل ممثلًا في "التفعيلة" لقد أراد المنفلوطي أن يحشر نفسه في زمرة الشعراء بعد أن خرج منهم، ويرضي نفسه أولًا.