المقصود في كتابة أدباء الفكر والتعبير، ولكن المنفلوطي قبل غيره هو الذي قارب بين الجمال والصحة على نسقه الفصيح، في سهولة لفظ، ووضوح معنى وسلامة نغم، وهو لا يبلغ مبلغ التبرج بالصقل والزينة، ولا يترك التبرج والزينة ترك المتقشف في مسوح النساك، وليس لدروس الإنشاء نموذج أصلح من هذا النموذج من وجهته الفنية، وعن أدبه هذا أقول في بعض فصول "المراجعات":
"إنه أحد الذين أدخلوا المعنى والقصد في الإنشاء العربي، بعد أن ذهب منه كل معنى، وصل به الكاتبون عن كل قصد، وكانت الكتابة قبل جيله قوالب محفوظة تنقل في كل رسالة، وكانت أغراض الكتابة كخطب المنابر تعاد سنة بعد سنة بنصها ولهجة قائلها، وقد اطلعت على مجموعة وافية مما كتب المنفلوطي للفن، وكا كتب بغير كلفة، فكان لكتابته على كلا النمطين المتباعدين طابع الرائد المجاهد في أمثال هذه الرسالة: رسالة التقريب بين حفاوة الإنشاء، ورخصة الخطاب وإطراح الكلفة".
ويختم العقاد كلمته التي أنصف بها المنفلوطي بقوله:"وتعيد إلينا قدرة المنفلوطي على تبسيط الأسلوب الجميل كلمة "أنا تول فرانس" التي يقول فيها: إن البساطة الجميلة هي القدرة على إخفاء الجهد والكلفة، وإن النور الأبيض في النظر، ولكنه أوفر الألوان تركيبًا؛ لأنه "توليفة" من جميع الألوان".
ونلاحظ أن العقاد يفرق بين نوعين من الكتاب: "من أسماهم منشئين، ومن سماهم كتابًا، والمنشئون في رأيه هم الذين يعنون بالعبارة وزخرفتها وصقلها بل وتبرجها دون عناية بالمعنى وغزارته وعمقه وجدته، والكتاب هم الذين يأتون بالجديد من المعاني ويثرون الفكر، ويشبعونه غذاء شهيًا، وقد يقصر بعضهم في الأداء، فيجني ذلك على كتابته.
وقد أعطى المنفلوطي حقه، واعترف له بمكانة الرائد الذي قرب بين أسلوب المنشئ في حلاوته وطلاوته، وأسلوب الكاتب في احتفائه بالمعنى، والغاية من كتابته، وإن عده في آخر المقال أنه أقرب إلى جماعة المنشئين منه إلى جماعة الكتاب، وذلك لقلة بضاعته في المعاني والأفكار.