وأمر ثالث وهو أعظم من هذين الأمرين خطرًا، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا، ذلك أن العلم لم يقف عند هذا اللون من ألوان الخلاف، وإنما طمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه، وإنما يزعم أنه له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث والتحليل، إذا فالدين في نظر العلم ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء، ولا هبط في الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، إن الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى، وأن ليس إلى التقائهما سبيل، ومن زعم للناس غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع، والحق أن المخدوعين كثيرون، وهؤلاء المخدوعون هم الذين يحاولون دائمًا التوفيق بين العلم والدين "السياسة الأسبوعية ١٧ من يوليو ١٩٢٨".
ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق:"إن الاتجاه العلمي الأخير هو انتصار للدين، ولسنا من القائلين بأن العلم كان يومًا من الأيام يناهض الدين، هذا من جهة، ومن الناحية الأخرى لم يحض الدين على منابذة العلم، بل على العكس إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح، العلم اليوم يسلم بوجود ما ليس قائمًا أمام الحس، وذهب عصر البديهيات، وتغير وضع القواعد العلمية، وأصبح عصرنا عصر يقين واعتقاد بالقوة الكافية، وقد أستطيع القول بأن العلم في الأيام المقبلة، سيخطو نحو الدين خطوات جريئة لا يبعد أن تثبت إمكان وقوع المعجزة "الهلال يونيو ١٩٣١".
ونستطيع أن نجمل أثر الثقافة بألوانها المختلفة في المقال الأدبي بخاصة في الأمور الآتية:
١- لم يعد المقال الأدبي لدى هؤلاء الكتاب الذين يحترمون أنفسهم، ويحترمون
قراءهم مجرد موضوع إنشائي خلو من الدراسات الواعية، وإنما صار موضوعًا يفيد من العلم في شتى نواحيه، وصار من شروط الأديب الأصيل أن يقف على آداب لغته هو وقوفًا صحيحًا، وأن يحيط بعلوم عصره وفلسفته وآدابه في اللغات المختلفة، إذ لم يعد الأدب وقفًا على الموضوعات الوجدانية أو الوصفية، وإنما شمل كل شيء في الحياة، وكلما كان الكاتب أكثر إحاطة بعلوم عصره، وأغزر ثقافة كان أدنى إلى