للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد كان الرومانيون في قديم الزمان يجبرون الوطني الذي بلغ من العمر عشرين سنة، أن يحلف يمينا أنه يحامي عن وطنه وحكومته، فيأخذون عليه عهدًا بذلك، وصيغة اليمين: "أشهد الله على أني أحمل سلاح الشرف، لأمانع به عن وطني وأهله، كلما لاحت فرصة أتمكن فيها من مساعدته، وأشهد الله على أني لحماية الوطن، والدين أحارب منفردًا أو مع الجيش، وأشهد الله على أني أحافظ على امتثال القوانين، والعوائد المقبولة في بلادي الموجودة في الحال، وما يتجدد منها، وأشهد الله ألا أتحمل أحدًا يجسر أن يخل بها، وينقض نظامها".

وينطلق رفاعة بمثل هذا الأسلوب السهل المعتمد على الأدلة، والشواهد يشرح حقوق الوطن على المواطن، وحق المواطن على وطنه، دون أن يلجأ إلى تكلف في اقتناص سجعة، أو الجري وراء محسن لفظي أو معنوي.

ولعلنا رأينا من هذه النماذج العديدة كيف تطور أسلوب رفاعة الطهطاوي، فقد كان يلجأ إلى الأسلوب المرسل في النثر الاجتماعي والسياسي، وكان هذا الأسلوب أول الأمر يغص بالكلمات العامية، والدخيلة، والمعربة، وكان يلجأ إليه كذلك عند الترجمة غالبًا.

أما في مقدمات كتبه جميعًا، وفي الموضوعات المشحونة بالعاطفة، وفي الموضوعات الأدبية الخالصة كالوصف والرسائل وغيرها، فإنه يؤثر عادة الأسلوب المسجوع، ويتأنق في عبارته، ويحليها ببعض ألوان البديع، وكان هذا الأسلوب المسجوع أول الأمر يبدو عليه التكلف وأثر الصنعة، ثم خفت حدة هذا التكلف على مر الأيام بازدياد ثقافته، وكثرة مرانه على الكتابة، ونمو ثروته اللغوية.

وليس من همي في هذا الكتاب أن أتتبع رفاعة في كل ما كتب من كتب ومقالات، وإنما أردت أن أتعرف على ظواهر تطور النثر ممثلة فيه؛ لأنه كان رائدًا من رواده، ولم يكن تطور أسلوبه إلا نتيجة لتطور عام شهدنا معالمه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبخاصة في مصر.

<<  <   >  >>