ومع اصطناع الشدياق السجع في مثل هذه المقالة الأدبية، إلا أنه أكسبها قوة وتشويقًا بحسن عرضه، وطريف سخريته، ومتانة حجته، وهكذا نجد الكتاب منذ عهد رفاعة والشدياق قد أخذوا يفرقون بين الأسلوب الصحفي الذي يكتب للعامة ولجمهور القراء، وبين الأسلوب الأدبي الذي يكتب للخاصة، وقد وفينا الشدياق حقه من البحث في "الأدب الحديث"، وكانت الجوائب مسرحًا لحملات صحفية جادة على التمسك بالأسلوب المسجوع في الصحافة خبرها، ومقالتها من ذلك ما نشره سليم نوفل في عدد ٢٣ من أغسطس سنة ١٨٧١ منتصرًا لأسلوب الشدياق المرسل، وناعيًا على هؤلاء الذين لا يزالون يتمسكون بأهداب القديم، ويتمسحون بأعتاب المقامات:"قد تقرر عند بعض الفصحاء من نصارى الشام، أن القافية هي ركن الفصاحة، ومحورها وغايتها حتى ذهب أحدهم إلى أن الكلام إذا كان من الفراغ، والسفسطة بحيث يستقبح النطق به لغير طفل لم يغره أكثر من أن تعلق على أطرافه، ولو تلصيقًا بالغراء أذناب متماثلة حتى ينقلب في الحال إلى ضرب من المعجزة، مثال ذلك أن يتفلسف طفل، أو مريض بالحمى فيقول في وصف كلام من تلفيقه له وزن وقافية: "وقد بزغت شمس وجه كلامي على ميزان ثرياه بين عذارى بنات الأفكار، وطلعت بدور جواهر أبياته المرصعة بمذهب غريب بناتها ... "، وما شابه ذلك من الكلام المعطل، فإذا أراد أن يطبخه فصيحًا لم يزد على أن ينفض عليه ذرة من بديع السجع، فينقلب للحال من جوامع الكلم بإذن القافية وقوتها".
وإذا كان الشدياق ومن تابعه قد حاولوا تخليص المقال الصحفي من السجع والتكلف، والجري وراء القافية والزخارف، وحرروا الكتابة الصحفية من هذه القيود، فليس معنى هذا أن هذا الأسلوب قد اختفى، بل إننا نرى الشدياق نفسه في غير المقالات الأدبية التي كان يعتني بأسلوبها، ويرتفع قلمه فيها قد كتب بعض المقامات، ونشرها في الجوائب.
ولكن مما لا ريب فيه أن أسلوبه الصحفي كان قدوة، وهو الأسلوب الذي سارت عليه الصحافة اليومية عشرات السنين إلى أن اختفت المقالة الصحفية، وحل محلها الخبر في السنوات الأخيرة.