أغمضت الصحافة المصرية، وغير المصرية عيونها عن كل هذه الآفات، والمفارقات خوفًا من بطش الحكام، ويصور لنا الشيخ محمد عبده ماذا عساه يلقاه هؤلاء الذين يتجرأون على مناقشة الحكام، أو مخالفة آرائهم بقوله:"ولو حدث إنسانًا فكره السليم بأن هناك وجهة خير غير التي يوجهها إليه الحاكم لما أمكنه ذلك، فإن بجانب كل لفظ نفيًا عن الوطن، أو إزهاقًا للروح، أو تجريدًا من المال".
وكان الأدب صدى لهذه الحياة البئيسة التي تقبر فيها الحريات، وتغل العقول يتغنى بما قام به هذا الحاكم الظالم من أفعال وضيعة، يصور سيئاته حسنات. وسخافاته آيات، وحماقاته معجزات، ومن يريد من الأدباء أن يربأ بقلبه عن هذه الوضاعة لجأ إلى مقامه متخيلة، أو رسالة إخوانية من تهنئة وتغزية، ورجاء ورثاء يظهر فيها مقدرته الفنية، ويشبع غريزته الأدبية.
جاء جمال الدين إلى مصر بعد أن طوف في عديد من الممالك الإسلامية عله يجد بلدا يصلح أن يكون نواة يلتف حولها المسلمون، ليستعيدوا سالف قوتهم، وغابر مجدهم، ووجد في مصر تلك التربة الممرعة الخصيبة، فألقى بها عصا تسياره، ولم يكن قد اشتهر بآرائه السياسية، وإنما عرف عنه أنه عالم ديني ومصلح اجتماعي، فلما وجد الأمور بمصر تزداد كل يوم سوءا من سفه إسماعيل وطيشه، وبعثرته المال ذات اليمين، وذات الشمال على ملذاته وشهواته، ومصر تئن تحت الديون الباهظة، والأجانب ولا سيما إنجلترا وفرسنا يتلمظون عليها، اضطر للاشتغال بالسياسة، وانغمس فيها حتى قمة رأسه.
ولا أريد في هذا المقام أن أترجم له، وأتتبع مراحل حياته، فقد وفيته حقه في "الأدب الحديث" إنما الذي يعنينا هنا ذلك التطور الكبير الذي نماه في نفوس طائفة من الشباب الذي إلتف حوله، وتشبع بتعاليمه ووجد فيهم الروح المتوثبة والهمة الناهضة، نلمس هذا التطور في أمرين:
أولهما: الموضوعات التي طرقها الكتاب، واتخذوا من الصحافة منبرًا يذيع آراءهم، وأفكارهم على الرغم من صرامة الرقيب وشدة وطأته، تمثلت هذه