للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإذا كان محمد عبده قد آثر في بادئ أمره أن يسير في الإصلاح على هينة، وأنه اضطر لمجاراة الأحداث فاشتغل بالسياسة حتى نفي عن وطنه، فإنه في جريدة "العروة الوثقى" التي صدرت بباريس، وكان للسيد جمال الدين فيها الفكرة ولمحمد عبده الأسلوب، قد تغيرت نغمته، وصار ذلك الوطني والسياسي المتحمس، الذي يصب شواظ غضبه على توفيق وعلى المحتل الغاصب، وعلى الخونة الذين يؤازرونه، فكانت العروة الوثقى شعلة ملتهبة متوهجة من الحماسة والآراء الحرة الجريئة، وكان طبيعيًا أن يحاربها الاستعمار خشية أن تفسد عليه تفرده بالغنيمة، وقتله الشعوب التي وقعت في قبضته، فمنعها من دخول الهند ومصر، ثم تعطلت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددًا.

هذا وقد كان للشيخ محمد عبده في رسائله الإخوانية، وتفريظاته أسلوب آخر غير ذلك الأسلوب الصحفي المتحرر، أسلوب يحتفى فيه بعبارته، وتصوير مشاعره تصويرًا فنيًا يدل على ذوق أدبي، وتمكن من اللغة، وعلى أنه ذو موهبة شعرية، تمده بالخيالات الطريفة والصور البيانية الجميلة، ونلمس هذا الأسلوب كذلك في وصف رحلاته العديدة، وبخاصة حين يصف منظرا من المناظر، لا حين يتكلم عن العادات والتقاليد ويوازن بينها، وبين عادات بلاده مستهجنا أو مادحًا، خذ مثلًا قوله يصف مقبرة مسينا: "ماذا أقول في وصف هذه المقبرة؟!! مدينة جميلة المناظر، بديعة المداخل، بعيدة المخارج، الداخل فيها أكثر من الخارج، قد اختير لها شجر الصنوبر زينة من بين الأشجار؛ لأنه في خضرة دائمة، وحياة مستمرة، كأن أرواح من يموت تنتقل إليه بعد مفارقة الأجساد، فهو لا يزال دائم الحياة في الصيف، وفي الشتاء والخريف والربيع، مدينة زينها الأحياء في حياتهم ليعدوها لإقامتهم -فيما يزعمون- بعد مماتهم، وهكذا من كان على يقين من الرحيل إلى دار هيأ تلك الدار للسكنى، وأعد لنفسه فيها أنواع النعيم ليطيب له المقام، ولا يقلق به المكان، لكن هل يكفي أن تزين لنفسك مقرا لجثتك، وأنت لا تدري هل تشعر هناك بما زينت، أو تؤخذ عنه إذا مت؟ فهل زينت دارًا لروحك بالطيبات، كما زينت دارًا لجثتك بالزهر والنبات؟ ".

<<  <   >  >>