وأحيانًا يفرد هذه السجعات، ثم يعيدها بعد خمس أو ست على الترتيب الأول كقوله:"منحتنا اللهم سلامة الروح، فلله الحمد على هذه المنحة حمدًا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان، فلله الشكر على هذه الصحة شكرًا بلا حد يلوح بدره ويفوح عطره، روح هي عين الحياة، ومدد العقل، ولب، هو منطق الشفاه، وسند النقل، طال عمره وجال أمره ... إلخ".
ولا شك أن هذا اللون من الأدب، أدب صنعة لا أدب طبع، الغاية منه -كما كانت الغاية من المقامات في العصور المتأخرة- إظهار المقدرة اللغوية والأدبية، دون أن يكون وراءه عاطفة تدفعه إليه، أو مصلحة عامة تحث عليه، ولا أدل على هذا من أنه كتب رسالة، زعم أن أحد أصدقائه طلب إليه فيها أن تكون مشتملة على أفانين خاصة من البديع وغيره، وفيها يشترط الصديق أن تكون أسطرها عشرين فما فوق، وأن يكون بعضها في غزل وعشق، وبعضها نكتا أدبية، وبعضها فوائد عربية، هذه محاورة والأخرى مسايرة، تارة طرائف خمرية، ومرة لطائف عمرية، وهكذا ترشف من كل دن، وتسطع في كل فن، على أن تكون بحكايات ما طرأت على الأفكار، ولا خرجت من الأوكار، وتلتزم الجناس في الفقر، وألا تأخذ من شعر غيرك إلا بيتا أو بيتين".
وقد استجاب النديم لهذا الرجاء، وكتب الرسالة كما طلبها منه، وترى له أحيانًا -نتيجة هذا التكلف، وأثرًا لهذه الصنعة- عبارات غريبة شاذة في استعارتها كقوله: "وطلاوة مر مر البدر معجون بليلة القدر"، وإن سلمت له بعض التعبيرات الجميلة كقوله: "واختلسنا النوم من جفون الزهر"، وقوله: "وأرق من خفر في بكر".
كان هذا هو حال النديم قبل أن يشتغل بالصحافة، فلما أنشأ "التنكيت والتبكيت" اضطر إلى العدول عنه، وكأني به في هذه المرحلة الأولى كان يعد نفسه بما يختزن في ذاكرته، وبما يدرب عليه قلمه للسيطرة على أزمة البيان واللغة، جاءت التنكيت والتبكيت بمقالات للخاصة، وأخرى للعامة، يكتب الأولى بأسلوب مرسل فيه قوة وجزالة، ويعالج موضوعات حيوية، وقد اهتم كل