استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان الممدوح غنى النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه، فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل.
والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما قسم الله له لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلحّ في الطلب، بل يرضى بما قسم له، فكأنه واجداً أبداً، والمتصف بفقر النفس على الضد منه، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عنده سبحانه خير وأبقى، فهو يعرض عن الحرص والطلب. وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلية، قال الشاعر:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات لا في جمع المال فإنه لا يزداد به إلا فقراً اهـ. قيل: وهذا وإن أمكن إلا أن ما قبله أظهر في المراد. قلت: وعليه فيمكن أن يحمل قوله: ليس الغنى على الدوام: أي ليس الغنى الدائم عن كثرة المال فإنه عرضة للزوال إنما هو بالكمال النفساني وما أحسن ما قيل:
رضينا قسمة الجبار فينا
لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب
وإن العلم كنز لا يزال
وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أمره، فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكر على نعمائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى النفس عن غير ربه، والغنى الوارد في قوله تعالى:{ووجدك عائلاً فأغنى}(الضحى: ٨) ينزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه قبل أن يفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير»(العرض بفتح العين والراء) المهملتين والضاد المعجمة (هو المال) في «المصباح» : هو متاع الدنيا قال: وهو في