للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقيتُ عبدَ الوهاب الأنماطي:

فكان على قانونِ السلفِ.

لم يُسمعْ في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث.

وكُنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى، واتصل بكاؤُه.

فكان -وأنا صغيرُ السنِّ حينئذٍ-يعملُ بكاؤُه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل (١).

ولقيت الشيخَ أبا منصور الجواليقي:

فكان كثيرَ الصمتِ.

شديدَ التحري فيما يقول، متقناً محققاً.


(١) عبدالوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي الحافظ أبو البركات محدث بغداد ولد سنة (٤٦٢ هـ) وتوفي سنة (٥٣٨ هـ) وهو من كبار الحنابلة المحدثين، وكان ابن الجوزي متأثراً به، لا يكاد يترك ذكره في كثير من كتبه، ولا يلام في ذلك فقد ذكر عنه أشياء عجيبة تدل على الخشية والعمل والورع والزهد، قال ابن رجب عنه في ذيل طبقات الحنابلة ١/ ٤٥٦: وذكره ابن الجوزي في عِدَّة مواضع من كتبه، كمشيخته، وطبقات الأصحاب المختصرة، والتاريخ، وصفة الصفوة، وصيد الخاطر. وأثنى عليه كثيراً، وقال: كان ثقةً ثبتاً ذا دين وورع، وكنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، كان على طريقة السلف، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره، ودخلت عليه في مرضه -وقد بلى وذهَبَ لحمُه- فقال لي: إنَّ الله عز وجل لا يُتهمُ في قضائه.
وقال أيضاً: ما رأينا في مشايخ الحديث أكثر سماعاً منه، ولا أكثر كتابة للحديث بيده مع المعرفة به، ولا أصبر على الإقراء، ولا أسرع دمعة وأكثر بكاء مع دوام البشر وحسن اللقاء.
وقال أيضاً: كنت أقرأ عليه الحديث من أخبار الصالحين، فكلما قرأتها بكى وانتحب، وكنا ننتظره يوم الجمعة بجامع المنصور فلا يجيء من قنطرة باب البصرة وإنما يجيء من القنطرة العتيقة. فسألته عن هذا؟ فقال: تلك كانت دار ابن معروف القاضي، فلما غضب عليه السلطان أخذها وبنى عليها القنطرة.
قال لنا: وسمعتُ أبا محمد التميمي يحكي عن ابن معروفٍ: أنه أحل كل من يجوزُ عليها، إلا أني أنا لا أفعل.

قال: وكانت فيه خلة أخرى عجيبة: لا يغتاب أحداً، ولا يُغتاب عنده. وكان صبوراً على القراءة عليه، يقعد طول النهار لمن يطلب العلم. وكان سهلاً في إعارة الأجزاء لا يتوقف، ولم يكن يأخذ أجراً على العلم، ويعيبُ من يفعل ذلك، ويقول: علِّمْ مجاناً كما عُلِّمتً مجاناً .... الخ.

<<  <   >  >>