للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الراء، فعلى القراءة الأولى فارقوا أي: تركوا دينهم الذي أمروا به. ولما كان هذا أمر يتعجب من وقوعه زاده عجباً بقوله تعالى: استئنافاً {كل حزب} أي: منهم {بما لديهم} أي: عندهم {فرحون} أي: مسرورون ظناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم، ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى:

أي: قحط وشدّة {دعوا ربهم} أي: الذي لم يشركه في الإحسان إليهم أحد {منيبين} أي: راجعين من جميع ضلالاتهم {إليه} أي: دون غيره علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، قال الرازي: في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أنّ معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السرّاء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضرّاء {ثم إذا أذاقهم منه رحمة} أي: خلاصاً من ذلك الضرّ {إذا فريق منهم بربهم} أي: المحسن إليهم دائماً المجدّد لهم هذا الإحسان من هذا الضر {يشركون} أي: فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم الذي عافاهم، فإذا الفجائية وقعت جواب الشرط؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب، ولا تقع أوّل كلام، وقد تجامعها الفاء زائدة، فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا إذا فريق منهم وقال في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت: ٦٥)

ولم يقل فريق؟ أجيب: بأنّ المذكور هناك غير معين وهو ما يكون من هول البحر، والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة مَنْ خرج من الشرك، وأمّا المذكور ههنا الضرّ مطلقاً فيتناول ضرَ البحر والأمراض والأهوال، والمتخلص من أنواع الضرّ خلق كثير بل جميع الناس قد يكونون قد وقعوا في ضرّ ما فتخلصوا منه، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهم خلق عظيم وهو جميع المسلمين، فإنهم تخلصوا من ضرّ ولم يبقوا مشركين، وأمّا المسلمون فلم يتخلصوا من ضرّ البحر بأجمعهم، فلما كان الناجي من الضرّ المؤمن جمعاً كثيراً سُمّي الباقي فريقاً. وقوله تعالى:

{ليكفروا بما آتيناهم} يجوز أن تكون اللام فيه لام كي وأن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله تعالى: {فتمتعوا فسوف تعلمون} عاقبة تمتعكم في الآخرة وفي هذا التفات من الغيبة.

{أم أنزلنا عليهم سلطاناً} أي: دليلاً واضحاً قاهراً أو ذا سلطان أي: ملك معه برهان، فقوله تعالى {فهو يتكلم} على الأوّل كلاماً مجازياً وعلى الثاني كلاماً حقيقياً، وعلى كلا الحالين هو جواب للاستفهام الذي تضمنته أم المنقطعة {بما} أي: بصحة ما {كانوا به يشركون} أي: فيأمرهم بالإشراك بحيث لا يجدوا بداً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذا الاستفهام بمعنى الإنكار أي: ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس: حجة وعذراً، وقال قتادة: كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون أي: ينطق بشركهم، ولما بين تعالى حال المشرك الظاهر شركه بيّن تعالى حال المشرك الذي دونه وهو مَنْ تكون عبادته للدنيا بقوله تعالى:

{وإذا} معبراً بأداء التحقيق إشارة إلى أنّ الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال {أذقنا الناس رحمة}

<<  <  ج: ص:  >  >>