للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

«اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقوله تعالى {وليذيقكم} أي: بها {من رحمته} أي: من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي: وليذيقكم أرسلها {ولتجري الفلك} أي: السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها، وإنما زاد {بأمره} لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت وأغرقتها {ولتبتغوا} أي: تطلبوا {من فضله} من رزقه بالتجارة في البحر {ولعلكم} أي: ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم {تشكرون} على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه.

تنبيه: قال تعالى في ظهر الفساد {ليذيقهم بعض الذي عملوا} (الروم: ٤١)

وقال ههنا {وليذيقكم من رحمته} فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب، والمسيء بعيد فلم يخاطب، وقال هناك {بعض الذي عملوا} فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى: {من رحمته} لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول: أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول: هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال: أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال: من رحمته كان غاية البشارة، وأيضاً فلو قال: بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال: بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك {لعلهم يرجعون} وقال هنا: {ولعلكم تشكرون} فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم، وعطف على النعم قوله تعالى:

{ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من القوة. وقال تعالى {من قبلك رسلاً} تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال {إلى قومهم} إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد {فجاؤهم بالبينات} فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين {فانتقمنا} أي: فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة {من الذين أجرموا} أي: أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله، ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى {وكان} أي: على سبيل الثبات والدوام {حقاً علينا} أي: مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه {نصر المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} قال البقاعي: فالآية من الاحتباك أي: وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه، ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو

<<  <  ج: ص:  >  >>