وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين {لقد لبثتم في كتاب الله} أي: فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم، وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخيره معناه: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم {إلى يوم البعث} و (في) ترد بمعنى (الباء) فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم {فهذا يوم البعث} الذي أنكرتموه، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة، والباقون بالإدغام.
تنبيه: سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان، وفي هذه الفاء قولان: أظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم، وقال الزمخشريّ: هي جواب شرط مقدّر أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي: فقد تبين بطلان ما قلتم، ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله تعالى {ولكنكم كنتم} أي: كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي: ليس لكم علم أصلاً لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم، ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، تسبب عن ذلك قوله تعالى:
{فيومئذ} أي: إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة {لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم} في إنكارهم له {ولا هم يستعتبون} أي: لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته أي: استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تقصير بقوله تعالى:
{ولقد ضربنا} أي: جعلنا {للناس في هذا القرآن} أي: في هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي: معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل؟ أجيب: بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول: الدليل عليه من وجوه الأوّل: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى:{ولئن} اللام لام قسم {جئتهم} يا أفضل