ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيماً جديراً بأن يهتم له هذا الاهتمام أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى:{ثم تتفكروا} أي: في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته {ما بصاحبكم} أي: رسولكم الذي أرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي: جنون يحمله على ذلك {إن} أي: ما {هو} أي: المحدث عنه بعينه {إلا نذير} أي: خالص إنذاره {لكم بين يدي} أي: قبل حلول {عذاب شديد} أي: في الآخرة إن عصيتموه، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا: بلى قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا فأنزل الله تعالى {تبت يدا أبي لهب وتب}(المسد: ١)
ولما انتفى عنه بهذا ما تخيلوا به بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بقوله تعالى:
{قل} أي: لهم يا أشرف الخلق {ما} أي: مهما {سألتكم من أجر} أي: على دعائي لكم من الإنذار والتبليغ {فهو لكم} أي: لا أريد منه شيئاً وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله تعالى أجراً أصلاً بوجه من الوجوه فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي، وأن الداعي أرجح الناس عقلاً ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله تعالى الذي له الأمر كله {إن} أي: ما {أجرى} أي: ثوابي {إلا على الله} أي: الذي لا أعظم منه فلا ينبغي لذي همة أن يطلب شيئاً إلا من عنده {وهو} أي: والحال أنه {على كل شيء شهيد} أي: حفيظ مهيمن بليغ العلم بأحوالي فيعلم صدقي وخلوص نيتي، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أجرى في الوصل بفتح الياء، والباقون بالسكون.
{قل} أي: لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر {إن ربي} أي: المحسن إليّ بأنواع الإحسان {يقذف بالحق} أي: يلقيه إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل إلى أقطار الآفاق فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإفشائه {علام الغيوب} أي: ما غاب عن خلقه في السموات والأرض.
تنبيه: في رفع علام أوجه: أظهرها: أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ مضمر، أو بدل من الضمير في يقذف وقال الزمخشري: رفع محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف يعني بقوله محمول على محل إن واسمها النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم، ويريد بالحمل على الضمير في يقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
{قل} لهؤلاء {جاء الحق} أي: الإسلام وقيل: القرآن وقيل: كل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد من جاء الحق أي: ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي: الذي أنتم عليه من الكفر {وما يعيد} أي: ذهب فلم تبق منه بقية مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم لا يبدئ ولا يعيد مثلاً في الهلاك ومنه قول عبيد: