ضرب مثلاً للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: {ومن كل} أي: الملح والعذب {تأكلون} أي: من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر {لحماً طرياً} أي: شهي المطعم {وتستخرجون} أي: من الملح دون العذب {حلية تلبسونها} أي: نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما، ذكر استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل، والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمة وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر.
وقيل: تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن: ٢٢)
قال البغوي: لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى.
فائدة: عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا: إنه لحن وإنما يقال: ملح كما قال تعالى {وهذا ملح أجاج} وهم مخطئون في ذلك كما قيل:
*وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم*
*ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القريحة والفهوم*
قال النووي: وأجاب أصحابنا بأجوبة: أصحها أن فيه أربع لغات: ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام قال عمر بن أبي ربيعة:
*ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا*
وقال آخر:
*وللرزق أسباب تروح وتغتدي ... وإني منها غير غاد ورائح*
*قنعت بثوب العدم من حلة الغنى ... ومن بارد عذب زلال بمالح*
وقال محمد بن حازم:
*تلونت ألواناً علي كثيرة ... وخالط عذباً من إخائك مالح*
وقال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة بنت الزبير:
*ولو وردت ماء وكانت قبيله ... مليحاً شربنا ماءه بارداً عذباً*
وقال الخطابي: يقال: ماء ملاح كما يقال: أجاج وزعاق وزلال قال: وإنما نزل الشافعي من اللغة العالية إلى التي هي أدنى للإيضاح وحسماً للإشكال والالتباس؛ لئلا يتوهم متوهم أنه أراد بالملح المذاب فيظن أن الطهارة به جائزة.
وثاني الأجوبة: أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة.
وثالثها: أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة، وقولهم: لم يذكرها الشافعي غير صحيح وقد أنكره البيهقي وقال: بل سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين «أمالي الحج» و «المناسك الكبير» .
فائدة أخرى: وهي أن ابن عمر قال في البحر: التيمم أحب إلينا منه وقال: بحركم هذا نار وتحت النار