للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم جعل منها زوجها. ثالثها: أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل: كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها.

رابعها: أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي: إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.

وقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان؛ أحدهما: أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل:

*إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا*

والثاني: أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي: معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً} (الأعراف: ٢٦)

وقيل: إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل: معنى قوله {أنزل لكم من الأنعام} جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى قوله {ثمانية أزواج} أي: ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم} بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة، والباقون: بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى: {خلقاً من بعد خلق} ما ذكره الله تعالى بقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} (المؤمنون: ١٢ ـ ١٣)

الآيات، وأما قوله تعالى: {في ظلمات ثلاث} فقال ابن عباس: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن {ذلكم} أي: العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم بعضكم بلسان قاله وبعضكم بناطق حاله الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا من أفعاله.

ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى: {الله} أي: الذي خلق هذه الأشياء {ربكم} أي: الملك والمربي لكم بالخلق والرزق فهو المستحق لعبادتكم وقوله تعالى: {له الملك} يفيد الحصر أي: له الملك لا لغيره.

ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه {لا إله إلا هو} أي: لا يشاركه في الخلق غيره. ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته ورحمته زيف طريقة المشركين بقوله تعالى: {فأنى} أي: فكيف ومن أي: وجه {تصرفون} عن طريق الحق بعد هذا البيان.

{إن تكفروا فإن الله} أي: الذي له الكمال كله {غني عنكم} لأنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة لأنه تعالى غني على الإطلاق، فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه تعالى واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته في جميع أفعاله يكون غنياً على الإطلاق، وأيضاً فالقادر على خلق السموات

<<  <  ج: ص:  >  >>