{ويأكلون} على سبيل الاستمرار {كما تأكل الأنعام} أي: أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف الأكل من غير تمييز الحرام من غيره، إذ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، لا يلتفتون إلى الآخرة؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم الدنيا، ووسع عليهم فيها، وفرغهم لها حتى شغلتهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة كما قال تعالى:{والنار مثوى لهم} أي: منزل ومقام ومصير ولما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى {أفلم يسيروا في الأرض} ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له. فقال تعالى:
{وكأين} أي: وكم {من قرية} أريد أهلها أي: كذبت رسولها {هي أشد قوة} وأكثر عدداً {من قريتك} مكة أي: أهلها وقوله تعالى: {التي أخرجتك} روعي فيه لفظ قرية وقوله تعالى: {أهلكناهم} أي: بأنواع العذاب روعي فيه معنى قرية الأول {فلا ناصر لهم} يدفع عنهم الهلاك. كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم قال ابن عباس:«لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب أرض الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى هذه.
{أفمن كان} أي: في جميع أحواله {على بينة} أي: حجة ظاهرة البيان في أنها حق {من ربه} أي: المربي والمدبر له المحسن إليه وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {كمن زين له} بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه {سوء عمله} فرآه حسناً وهم: أبو جهل والكفار {واتبعوا أهواءهم} في ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل ولما تكرّر ذكر الجنة في هذه السورة بين صفتها. بقوله تعالى:
{مثل} أي: صفة {الجنة} أي: البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها {التي وعد المتقون} أي: الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين.
تنبيه: اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه:
أحدها: أن {مثل} مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و {فيها أنهار} مفسر له. وقدّره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل.
ثانيها: أن {مثل} زائدة تقديره: الجنة التي وعد المتقون {فيها أنهار} ونظير زيادة {مثل} هنا زيادة اسم في قول القائل:
*إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ثالثها: أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر: قوله تعالى {كمن هو خالد في النار} فقدّره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح وقدّره الزمخشريّ: أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى {فيها أنهار} حال من الجنة أي: مستقرّة فيها أنهار {من ماء} ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي: متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه قال تعالى:{غير آسن} أي: ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير