الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} استعظم خلقه لفرط احتمال الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم، قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى، ولا أرضى عنده منه، وروى مسلم عن عائشة:«أنّ خُلقه كان القرآن» . وقال علي: هو أدب القرآن، وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من الله وينتهي عنه بما نهى الله تعالى عنه، وقيل: إنك على طبع كريم، وقيل: هو الخلق الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف: ١٩٩)
وقال الماوردي: حقيقة الخلق في اللغة ما يأخذه الإنسان في نفسه من الأدب، سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم، فيكون الخلق الطبع المتكلف والخيم الطبع الغريزي.l
قال القرطبي: ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم «فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات» . قال الرازي: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية الشريفة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق به وكانت شديدة التعري عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة وقالت:«ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ولذلك قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر» .
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» . وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير» . وعن أنس بن مالك قال:«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً ولا عنبراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقاً» . وعن أنس «أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضيت حاجتها» . وعن أنس بن مالك قال:«كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت» . وعن أنس أيضاً:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح رجلاً لم ينزع يده حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له» . وعن عائشة قالت:«ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، ولا ضرب خادماً ولا امرأة» . وعنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً،