للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى: {يوفون بالنذر} وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء: التقدير: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: يوفون جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان: واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي:

{يوفون بالنذر} أي: يتممون العهود لقوله تعالى: {وأفوا بعهد الله} (النمل: ٩١)

{أوفوا بالعقود} (المائدة: ١)

أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي: والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» .

ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. {ويخافون} أي: مع فعلهم للواجبات {يوماً} قال ابن عبد السلام: شرّ يوم أو أهوال يوم {كان} أي: كوناً هو في جبلته {شرّه} أي: ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي: فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه: كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.

فإن قيل: لم قال تعالى: {كان شرّه} ولم يقل سيكون؟ أجيب: بأنه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: ١)

فبما قيل في ذاك يقال هنا.

{ويطعمون الطعام} أي: على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى: {على حبه} حال إما من الطعام أي: كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: ٩٢)

ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما من الفاعل والضمير في حبه لله أي: على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام.

{مسكيناً} أي: محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي: صغيراً لا أب له {وأسيراً} أي: في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر

<<  <  ج: ص:  >  >>