ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها سبب عنه قوله تعالى آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر:
{فصلِّ} أي: بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم، خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها. {لربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك {وأنحر} أي: أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنعهم الماعون، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل.
وقال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة:{فصل لربك} صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد: فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي: مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي: أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ: استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
{إنّ شانئك} أي: مبغضك والشانىء المبغض، يقال: شنأه يشنؤه، أي: أبغضه {هو الأبتر} أي: المنقطع عن كل خير، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل {إنا أعطيناك الكوثر} وفي مقابلة الصلاة {فصلّ} أي: دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء {لربك} أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون {وانحر} أي: تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى: {إنّ شانئك هو الأبتر} أي: أنّ المشاقق الذي اتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل.
واختلف المفسرون في الشانىء فقيل: هو العاص بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل: إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال: بتر محمد فنزلت. وقال السديّ: إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد