{إنّ الله كان عفوّاً غفوراً} كناية عن الترخيص والتيسير؛ لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر ما كان ميسوراً غير معسر.
{ألم تر} أي: تنظر {إلى الذين أوتوا نصيباً} أي: حظاً يسيراً {من الكتاب} أي: من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يشترون} أي: يختارون {الضلالة} على الهدى {ويريدون أن تضلوا} أيها المؤمنون {السبيل} أي: تخطئون طريق الحق لتكونوا مثلهم.
{والله أعلم} منكم {بأعدائكم} فيخبركم بهم لتجتنبوهم ولا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم {وكفى با ولياً} أي: حافظاً {وكفى با نصيراً} أي: مانعاً لكم من كيدهم وقوله تعالى:
{من الذين هادوا} بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأنهم يهود ونصارى وقوله تعالى:{وا أعلم بأعدائكم وكفى با ولياً وكفى با نصيراً} جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً أي: ينصركم من الذين هادوا كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا}(الأنبياء، ٧٧)
أو خبر مبتدأ محذوف صفته {يحرّفون الكلم عن مواضعه} أي: ومن الذين هادوا قوم يحرّفون أي: يغيرون الكلم الذي أنزل في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم عن مواضعه التي وضع عليها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها، وفي المائدة {من بعد مواضعه}(المائدة، ٤١)
والمعنيان متقاربان، قال ابن عباس: كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه {ويقولون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم {سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك {واسمع غير مسمع} بمعنى الدعاء أي: لا سمعت بصمم أو بموت، أو بمعنى اسمع منا ولا نسمع منك، أو بمعنى اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه {و} يقولون له: {راعنا} يريدون به النسبة إلى الرعونة وقد نهى عن خطابه صلى الله عليه وسلم بها وهي كلمة سب بلغتهم {لياً} أي: تحريفاً {بألسنتهم} أي: يحرفون ما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير نفاقاً {وطعناً} أي: قدحاً {في الدين} أي: الإسلام {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} بدل وعصينا {واسمع} أي: فقط {وانظرنا} أي: انظر إلينا بدل راعنا {لكان خيراً لهم} مما قالوه {وأقوم} أي: أعدل وأصوب {ولكن لعنهم الله} أي: أبعدهم عن رحمته {بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} أي: إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويجوز أن يراد بالقلة العدم أو إلا نفراً قليلاً منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
{ياأيها الذين أوتوا الكتاب} يخاطب اليهود {آمنوا بما نزلنا} أي: القرآن {مصدّقاً لما معكم} أي: التوراة وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وأصحابه وكعب بن أسد وقال: «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» قالوا: ما نعرف ذلك وانصرفوا على الكفر فنزلت {من قبل أن نطمس وجوهاً} أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم {فنردّها على أدبارها} أي: فنجعلها كالأقفاء مطموسة مثلها أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة.
روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحوّل وجهي في قفاي وكذلك