للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حدثنا حجاج بن سليمان المقري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي قال: "كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه، إن شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين". ثم أهوى النبي إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: "وكان ذكره مثل هذه القذاة " [١].

وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان [٢] ﴿حَصُورًا﴾ ليس كما قاله بعضهم، إنه كان هيوبًا أولًا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا يليق بالأنبياء . وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حصور عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات. وقيل: ليست له شهوة في النساء.

وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثم يمنعها إمّا بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله ﷿ كيحيى ، ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه، درجة عليا، وهي درجة نبينا الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهنّ وقيامه عليهنّ، وإكسابه لهنّ، وهدايته إياهنّ، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: "حبب إلي من دنياكم" (١٠٩) هذا لفظه.

والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور، ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه حصور من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهنّ وإيلادهنّ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم، حيث قال: ﴿هَبْ [٣] لِي مِنْ لدنك ذرّية طيبة﴾ كأنه [قال: ولدًا] [٤] له ذرية ونسل وعقب، والله أعلم.

وقوله: ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ هذه بشارة ثانية بنبوّة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله تعالى لأمّ موسى: ﴿إنا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾. فلما تحقق زكريا هذه البشارة، وأخذ [٥] يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ﴾ أي: الملك ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾


(١٠٩) - تقدم آية (١٤).