للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن هؤلاء العلماء الذين سخروا أنفسهم لخدمة كتاب ربهم، شيخ الإِسلام، وقدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، أبو الفداء إسماعيل بن كثير -رحمه الله تعالى- الذي انتهت إليه رياسة العلم في الحديث والتفسير والتاريخ، وكتبه التي بين أيدينا شاهدة له بذلك، وحسبك منها ما نحن بصدده، وهو كتابه: "تفسير القرآن العظيم" الذي قال عنه السيوطي: "وله التفسير الذي لم يُؤلَّف على نمطه مثله".

ويُعدُّ هذا التفسير من التفاسير المأثورة، والتي ضاع أكثرها قبل عصر ابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ هـ. وقيمة تفسير ابن كثير لا تنحصر في أنه تفسير أثري، جمع كثيرًا من الروايات والأخبار المأثورة، إذ من الممكن الحصول عليها من مصدر آخر، لكن امتياز تفسير ابن كثير عن جميع التفاسير التي بلغتنا - سواء كانت بالمأثور أو غيره - يرجع إلى تطبيقه الفذ لمنهج تفسير القرآن، إذ جمع الآيات المتماثلة، وأحصاها عدًّا، وأبان الأسرار الدقيقة في تناسقها، وانسجام ألفاظها، وتساوق أساليبها، وعظمة معانيها، وهو بهذا يمثل معجمًا مفهرسًا لألفاظ القرآن الكريم وآياته، لكنه لم يطبع على ورق، بل على قلبٍ واعٍ لآيات الله وكلماته.

ويرجع امتياز تفسيره أيضًا إلى حشده لكثير من الأحاديث والأخبار والروايات وأقوال الصحابة والتابعين مبينًا - في الغالب - درجة الأحاديث والروايات المأثورة من الصحة والضعف، كاشفًا عن أسانيدها وطرقها ومتونها على أسس علم الجرح والتعديل، مرجحًا في أغلب الأحيان الأقوال الصحيحة، مضعفًا لغيرها.

وقد كان ابن كثير من كبار المحدثين الحفاظ، لذلك غلبت عليه تلك الطريقة الحديثية في تفسيره، ويكفي أن تعرف - دعمًا لهذه الحقيقة - أن مجموع مصادر السنة في تفسيره يوازي ثلث المصادر كلها، وأن الأحاديث التي ذكرها عن الكتب الستة ومسند الإمام أحمد بلغت عددًا هائلًا.

ومن ميزات ابن كثير أيضًا أنَّه كان يتمتع بمَلَكة نقدية فاحصة، سلَّطها على هذا الحشد الهائل من الروايات المأثورة، والأخبار المتوارثة، فأقر منها ما يتفق مع النقل الصحيح والعقل السليم، وندَّد بالروايات المنكرة، والأخبار المختلقة التي لا حاجة لنا بها في ديننا، ولا في دنيانا.

ويرجع امتياز تفسير ابن كثير كذلك إلى أنَّه ليس في التفاسير كلها - مأثورة وغير مأثورة - ما ناقش الإسرائيليات وأبان زيفها، ودحض إفكها على هدًى من قواعد علم الجرح والتعديل كتفسير ابن كثير، فهو في هذا الجانب لا يفوقه مفسر حافظ ولا يضاهيه. وتلك حقيقة واضحة وضوح الشمس لمن تأمل تفسيره وأمعن النظر

<<  <  ج: ص:  >  >>