للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لما ذكر تعالى قصة زكريا وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى منها من غير أب، فإن بين القصتين [١]- مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا، وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين [٢]؛ لتقارب ما بينهما في المعنى؛ ليدل عباده علي قدرته وعظمة سلطانه، وأنه علي ما يشاء قادر، فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ وهي: مريم بنت عمران، من سلالة داود وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في سورة [٣] آل عمران، وأنها نذرتها [٤] محررة، أي: تخدم مسجد [٥] بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك [٦] ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدي العابدات الناسكات، المشهورات بالعبادة العظيمة، والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل: خالتها- زكريا، نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأي لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره؛ ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَال يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ (٣٧)﴾ فذكر أنه كان يجد عندها ثمر [٧] الشتاء في الصيف، وثمر [٨] الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه [٩] في سورة [١٠] آل عمران، فلمّا أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة- أن ورجد منها عبده ورسوله عيسى أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام ﴿انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلي شرق [١١] المسجد المقدس.

قال السدي: لحيض أصابها. وقيل: لغير ذلك، قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس (٥٠) قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلي البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: ﴿انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ قال: خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي (٥١) حاتم، وابن


(٥٠) - أخرجه الطبري (١٦/ ٦٠).
(٥١) - أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٤/ ٤٧٧).