للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فخرجوا به إلي سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها، قال الله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: تحريمًا قَدَريًّا، وذلك لكرامة الله له، صانه عن أن يرتضع غير ثدي أمه، ولأن الله -سبحانه- جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعد ما كانت خائفة. فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه ﴿فَقَالتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾.

قال ابن عباس: لما قالت ذلك أخذوها، وشكوا في أمرها، وقالوا لها: وما يدريك نصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظُئُورة [١] الملك ورجاء منفعته. فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخَلَصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا.

وذهب البشير إلي امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاءً جزيلًا، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها، وقالت: إن لي بعلًا وأولادًا، ولا أقدر علي المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلي ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات [٢] والكساوي والإِحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنًا، في عز وجاه ورزق دارٍّ؛ ولهذا جاء في الحديث: "مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها". ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل: يوم وليلة، أو [٣] نحوه، والله أعلم، فسبحان من بيده الأمر! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق مخرجًا، ولهذا قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَي تَقَرَّ عَينُهَا﴾، أي: به، ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾، أي: عليه، ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾، أي: فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين، فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.

وقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريهًا إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: [﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾، وقال تعالى] [٤]: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا (١٩)﴾.


[١]- في خ، ز: "صهر".
[٢]- في ز: "الصلاة".
[٣]- في ز، خ: "أي".
[٤]- ما بين المعكوفتين سقط من: خ، ز.