للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقول تعالى مخبرًا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل: إنه ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة علي الهدى والبيان ﴿إلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان، وتوجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلي استعمال جاههم وقوة ملكهم، ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾، وذلك أنهم حَشَدُوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، وحَوّطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار فارتفع لها لهب إلي عَنَان السماء. ولم توجد [١] نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوا به فيها، فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وخرج منها سالمًا بعد ما مكث فيها أيامًا ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إمامًا. فإنه بذل نفسه للرحمن، وجَسَده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع علي محبته جميع أهل الأديان.

وقوله: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾، أي: سَلّمه منها، بأن جعلها عليه بردًا وسلامًا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقَال إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَينِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، يقول لقومه مقرّعًا لهم وموبخًا على سوء صنيعهم، في عبادتهم الأوثان: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا علي عبادتها في الدنيا، صداقة وألفة منكم، [بعضكم لبعض] [٢] في الحياة الدنيا. وهذا علي قراءة من نصب ﴿مَوَدَّةَ بَينِكُمْ﴾ (*)، علي أنه مفعول له، وأما علي قراءة الرفع فمعناه [٣]: إنما اتخاذكم هذا يُحَصّل لكم المودة في الدنيا فقط، ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بَغْضَة وشنآنا، فـ ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [أي: تتجاحدون ما كان بينكم] [٤]، ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، أي: يلعن الأتباع المتبوعين، والمتبرعون [٥] الأتباع، ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾، وقال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا الْمُتَّقِينَ﴾ وقال هاهنا: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، أي: ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلي النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله. وهذا حال الكافرين، فأما المؤمنون فبخلاف ذلك.

قال ابن أبي حاتم (٨): حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسى، حدثنا أبو عاصم الثقفي الربيع بن إسماعيل [٦] عن [٧] عمرو بن سعيد بن جعدة بن هبيرة المخزومي، عن أبيه، عن جده، عن


(*) انظر القراءات في هذه الآية في كتاب السبحة في القراءات لابن مجاهد (ص ٤٩٨ - ٤٩٩).
(٨) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط حديث (٤٨٠٣) من طريق محمد بن إسماعيل الأحمسي به، وقال: "لا يروى عن أم هانئ إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو عاصم". وقال الهيثمي في المجمع (١٠/ ٣٥٥):=