يقول تعالى ممتنًّا على قريش فيما أحلهم من حرمه [١]، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن دخله كان آمنًا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا، كما قال تعالى: ﴿لإِيلَافِ قُرَيشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
وقوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾، أي: أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه الأصنام والأنداد، و ﴿بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾، وكفروا بنبي اللَّه وعبده ورسوله، فكان اللائق بهم [٢] إخلاص العبادة لله، وأن لا يشركوا به، وتصديق الرسول وتعطمه وتوقيره، فكذبوه وقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم؛ ولهذا سلبهم اللَّه ما كان أنعم به عليهم، وقتل من قتل منهم ببدر، وصارت الدولة (*) لله ولرسوله وللمؤمنين [٣]، ففتح اللَّه على رسوله مكة، وأرغم آنافهم [٤] وأذل رقابهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ﴾، أي: لا أحد أشدّ عقوبة ممن كذب على اللَّه فقال: إن اللَّه أوحى إليه ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل اللَّه. وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه، فالأول مفتر، والثاني مكذب، ولهذا قال: ﴿أَلَيسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾؟.
ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾، يعني الرسول -صلوات اللَّه وسلامه عليه- وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، أي: لنُبَصرّنَّهم سبلنا أي: طرقنا [٥] في الدنيا والآخرة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد -من أهل عكا- في قول اللَّه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: اللَّه يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا [٦] يعلمون. قال أحمد بن أبي