للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة (*) في جيش متوسط، هذا وكسرى مُخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار [١] مسرعًا حتى انتهى إلى بلاد فارس فعاث في بلادها [٢] قتلًا لرجالها ومن بها من المقاتلة أولًا فأولًا [٣]، ولم يزل يقتل [٤] حتى انتهى إلى المدائن، وهي كرسي مملكة كسرى، فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه وحريمه، وحلق رأس ولده، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة (**) من قومه في غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخُذه. فلما بلغ [ذلك] [٥] كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا اللَّه ﷿، واشتد حنقه على البلد فاشتد في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون، التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة وركب في بعض الجيش، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدًا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده [٦] أنهم قد [٧] خاضوا من هنالك، فركبوا في طلبهم فشغرت (* * *) المخاضة عن الفرس، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده، ودخلوا القسطنطينية. وكان ذلك يومًا مشهودًا عند النصارى. وبقى كسرى وجنوده [٨] حائرين لا يدرون ماذا يصنعون لم يحصلوا على بلاد قيصر، وبلادهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم، وسبوا ذراريهم ونساءهم [٩]. [فهذا ما كان] [١٠] من غَلَب الروم فارس وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم.

وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز.

وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة وهي أقرب بلاد الروم من فارس. فالله أعلم.


(*) الجريدة: خيل لا رجالة فيها.
(**) جمع إسوار وهو قائد الفرس.
(* * *) شغر المكان: خلا.