ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف. ثم النسطورية أتباع [١] نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول اللَّه ﷺ:"إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة"(٨). والغرض إِنهم استمروا على النصرانية، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده. حتى كان آخرهم هرقل، وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا، فتملَّك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، ومَلك البلاد كالعراق وخراسان والرّي، وجميع بلاد العجم، وهو سابور ذو الأكتاف، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وله رياسة العجم وحماقة الفرس، وكانوا مجوسًا يعبدون النار.
فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى [غزاه بنفسه][٢] في بلاده فقهره وكَسَره وقصره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسططينية؛ فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه وكانت النصارى تعظمه تعظيمًا زائدًا، ولم يقدر كسرى على فتح البلد، ولا أمكنه ذلك لحصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك. فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة، ورأى [٣] في نفسه خديعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد [٤] من ملوك الدنيا، من ذهب، وجواهر، وأقمشة، وجوار [٥]، وخدام، وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشره، وسأل [من][٦] كسرى أنُ يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج عن [٧] مدينة قسطنطينية، جمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته، في جند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيًّا ولو غبت عشرة أعوام.
(٨) - سنن أبي داود حديث (٤٥٩٦)، ورواه ابن ماجة في السنن حديث (٣١٩٢)، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات".