للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله عليها، له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى -يعني ليلة الإِسراء- وكانت هذه الرؤية [١] الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل أول مرة، فأوحى الله إليه صدر "سورة اقرأ"، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي فيها مرارًا ليتردى من رءوس الجبال، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء: "يا محمد، أنت رسول الله حقًّا، وأنا جبربل". فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها (٩)، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله، ، في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح قد سد عُظْم [٢] خلقه الأفق، فاقترب [٣] منه وأوحى إليه عن الله ﷿ ما أمره به، فعرف عند ذلك


(٩) - وردت قصة محاولة تردي النبي في صحيح البخاري في كتاب: التعبير، باب: أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة، حديث (٦٩٨٢) (٢/ ٣٥١ - ٣٥٢). قال ابن حجر في الفتح (١٢/ ٣٦٠): قال الإسماعيلي: موه بعض الطاعنين على المحدثين، فقال: كيف يجوز للنبي أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقى منها نفسه على ما جاء في رواية معمر؟!. قال: ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاء به مع عدم المعاينة؟ قال: والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قضي بإيصاله إلى الخلق؛ أن يَقْدُمَه ترشيح وتأسيس؛ فكان ما يراه النبي من الرؤية الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك؛ فلما فجئه الملك فجئه دعتة أمرٌ خالف العادة والمألوف فنفر طبعه البشرى منه وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها؛ فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وبنفر طبعه منه، حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه؛ فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له؛ فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة؛ فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة؛ لمعرفتها بصدقه ومعرفته وقراءته الكتب القديمة؛ فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف له، ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترةُ الوحى ليتدرج فيه ويمرن عليه؛ فشق عليه فتوره إذ لم يكن خوطب عن الله بعد: أنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمر بدئ به ثم لم يرد استفهامه فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة، والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح. قال: ومثال ما وقع له أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول: "الحمد لله" فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ، وكذا لو سمع قائلًا يقول: "خلت الديار" لم يتحقق أنه ينشد شعرًا حتى يقول: "محلها فمقامها" اننهى ملخصًا.
ثم قال: وأما إرادته إلقاء نفسه من رءوس الجبال بعد ما نبئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، وخوفًا مما يحصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعًا؛ كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى إلى إهلاك نفسه عاجلًا، حتى إذا تفكر فيما فيه صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر، واستقرت نفسه. =