ثم ذكر: أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، وإمّا [١] بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين، لأنه تقدم ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع، والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنَّه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك [٢] أيضًا ردٌّ على من لا يحجه من أهل الكتابين: اليهود، والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بَنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة، وغير ذلك، وللاعتكاف والصلاة عنده، وهم لا يعلمون شيئًا من ذلك، فكيف [٣] يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟! وقد حج البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -كما أخبر بذلك المعصوم، الذي ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
وتقدير الكلام إذًا. ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أي تقدّمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أي طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصًا لله، معقلًا للطائفين، والعاكفين، والركع السجود.
وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. ومن السنة من أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها، وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات، وما أشبه ذلك، ولهذا قال ﵇:"إنما بنيت الساجد لما بنيت له"(٧٨٠). وقد جمعت في ذلك جزءًا على حده، ولله الحمد والنة.
[وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل: الملائكة قبل آدم، روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسن، ذكره القرطبي، وحكى لفظه، وفيه غرابه. وقيل: آدم ﵇.
رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، وسعيد بن المسيب، وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء، وطور سيناء زيتا، وجبل لبنان، والجودى، وهذا غريب أيضًا. وروي عن ابن عبَّاس، وكعب الأحبار، وقَتَادة، وعن وَهْب بن منبه: أن أول من بناه شيث ﵇. وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب. وهي مما لا يصدق، ولا
(٧٨٠) - رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، برقم ٨٠ - (٥٦٩) من حديث بريدة ﵁.