الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالا: ننظر؛ فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كفي كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم ﵇، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا.
قال: فحدّثني بعض من وروي الحديث، أن رجلًا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضًا أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقَّضَتْ مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بَنَوْها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني الحجر الأسود- فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لُؤَيّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لَعَقَةَ الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال، أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاورا وتناصفوا. فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل من دخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه، ففعلوا [١]، فكان أوّلَ داخل رسولُ الله ﷺ؛ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال ﷺ:"هَلُمّ إلَيّ ثوبًا". فأُتي به، فأخذ الركن -يعني الحجر الأسود- فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا. ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ﷺ ثم بُني عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله ﷺ قبل أن ينزل عليه الوحي:(الأمين). فلما فرغوا من البنيان، وبنوها على ما أرادوا: قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحيّة التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العُقَاب … إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيشٌ … وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت … تُهَيِّبُنا البناءَ وقد تُهَابُ
فلما أن خشينا الزَّجْرَ جاءت … عُقابٌ تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خَلَّتْ … لنا البنيان لبس لها حجاب