للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تمُرُّ بنا الأيامُ تَتْرَى وإنما … نُسَاقُ إلى الآجال والعينُ تَنْظُرُ

فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مَضَى … ولا زَائلٌ هذا المشَيبُ المُكَدِّرُ

وصحبته وملازمته لشيخ الإسلام ابن تيمية أفادته أعظم الفوائد، في علمه ودينه، وتقوية خلقه، وتربية شخصيته المستقلة الممتازة.

فهو مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار، لا يتعصب لمذهبه ولا لغيره. وكتبه العظيمة، وخاصة هذا التفسير الجليل -فيها الدلائل الوافرة. ونجده- مع أنه شافعي المذهب- يفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، بما رجحته الدلائل الثابتة الصحاح، أنه يقع طلقة واحدة. ثم يمتحن ويلقى الأذى، فيثبت على قوله، ويصبر على ما يلقى في سبيل اللَّه.

- وهو -وهو تلميذ شيخ الإسلام ومن خاصة أنصاره- يعرف ما كان بين شيخه شيخ الإسلام وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي- ومع ذلك فإنه لا يعين عليه في محنة لحقته، بل يعلن عن غبطته بأن تزول عنه المحنة. فيذكر في التاريخ- في حوادث سنة ٧٤٣ (١٤: ٢٠٤) أنه أرجف الناس كثيرًا بقاضي القضاة -في دمشق- "واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري. وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتين، فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت خطه عليها وحده بعد الصلاة. وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت، لما فيها من التشويش على الحكام". ثم يقول: "وكانوا له في نية عجيبة، ففرج اللَّه عنه بطلبه إلى الديار المصرية.

فهذا خُلق أهل العلم النبلاء الأتقياء.

وقد طار ذكره في الأقطار الإسلامية، حتى إنه ليذكر في حوادث سنة ٧٦٣ (١٤: ٢٩٤ - ٢٩٥) أن شابًّا أعجميًّا حضر من بلاد تبريز وخراسان، "يزعم أنه يحفظ البخاري ومسلمًا "وجامع المسانيد" و "الكشاف" للزمخشري وغير ذلك"، وأنه امتحنه بقراءة مجالس من البخاري وغيره، بحضرة قاضي القضاة الشافعي، وجماعة من الفضلاء، ثم قال: "وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة. وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك، وأن تجيزني. وذكرك في بلادنا مشهور".

وهذا الخبر يدل على أن كتابه "جامع المسانيد" وصل إلى أقصى الشرق، في بلاد تبريز وخراسان، حتى يحفظه هذا الشاب الأعجمي أو يحفظ شيئًا منه. في حين أن الحافظ ابن كثير لم يتم تأليف "جامع المسانيد" كما هو معروف، فكأن العلماء

<<  <  ج: ص:  >  >>