للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودلل ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن أَبي هُرَيْرة أن رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اكلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ". (١)

فقوله: "فإن خير العمل أدومه وإن قلّ" قرينة تدلّ على أن علّة أمر الناس بأن يكلفوا من العمل ما يطيقون هو مخافة ما يمكن أن يصيبهم من عنت يؤدي بصاحبه إلى الإنقطاع، فمن كانت فيه طاقة على الإكثار من العبادات دون خشية من الإنقطاع جاز له الإكثار من ذلك.

وكذلك النهي يَرِدُ لأغراض متعددة منها التحريم (٢)، والكراهة، (٣) والإرشاد، (٤) والدعاء، (٥) وغيرها، والذي يحدّد المقصود من النهي بعد ذلك هو ما يحفّ به من قرائن.

- ومن أمثلة ذلك ما ورد في النهي عن الوصال، حيث روى البخاري عن أَبي

هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يا رَسُولَ الله. قَالَ: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ فَقَالَ: "لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدتُكُمْ كالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا". (٦)

فالنهي عن الوصال يحتمل أن يكون للتحريم، ومن ثَمّ يكون الشارع قاصداً إلى التقليل من الصوم، ويحتمل أن يكون مجرّد ترغيبٍ القصدُ منه الرِّفق بالمكلّفين. وقد دلّت القرائن على أن المقصود هو الرفق لا التقليل من الصوم، ومن تلك القرائن وصال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصاله بالصحابة لما امتنعوا عن ترك الوصال؛ ليبيِّن لهم ما يلحق بهم من مشقَّةٍ جرّاء الوصال ويُظهرَ لهم عمليّاً الحكمة من نهيه. فعدم انتهاء الصحابة عن الوصال ما كان ليقع لولا أنهم علموا من خلال القرائن الحالية التي صاحبت نهي


(١) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب (٢٨)، ج ٢، ص ٤٣٦، الحديث (٤٢٤٠).
(٢) مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: ١٥٢].
(٣) مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: ٨٧].
(٤) مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: ١٠١].
(٥) مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦].
(٦) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (٤٩)، مج ١، ج ٢، ص ٦٠٦، الحديث (١٩٦٥).

<<  <   >  >>