للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أن النهي إنما كان ترفُّقاً بهم، ولو كان نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمولاً على حقيقته -وهي التحريم- لما واصل بهم بعد أن نهاهم؛ لأن ذلك يُعدّ تناقضاً، وحاشاه أن يقع منه ذلك. ومن ذلك أيضاً ما روي عن السلف الصالح من وصالهم مع -علمهم بالنهي، وما كان منهم ذلك إلّا لأنهم علموا أن المقصد من النهي إنما كان هو الرفق بهم، فمن وجد في نفسه قدرة فواصل فلا شيء عليه. (١) ولذلك ترجم البخاري للأحاديث الواردة في النهي عن الوصال بقوله: "بَاب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: ١٨٧]، وَنَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَمَا يُكرُه مِنَ التَّعَمُّقِ". (٢)

- ومن أمثلة ذلك النهي الوارد في المزارعة، فقد أخذه البعض -وكل رأسهم رافع بن خديج وسالم بن عبد الله بن عمر- كل ظاهره من كونه للتحريم، وفهم بعض الصحابة -وعلى رأسهم ابن عباس- من القرائن الحالية التي صاحبت النهي أن المقصد من النهي ليس التحريم وإنما هو الترغيب في المواساة بين الصحابة بأن يعود من كان له فضلُ أرضٍ على من لا أرضَ له ليستغلّها ويسدّ بها خلته. (٣)

فهذا الصحابي الذي وقعت له الحادثة فهم من القرائن الحالية التي صاحبتها أن النهي إنما كان ترغيبًا في عدم كرائها لا نهي تحريم، فالقرائن الحالية هي التي جعلته يرجح معنى من معاني النهي على المعاني الأخرى. وكذلك روي عن ابن عباس أن


(١) انظر الشاطبي: الموافقات، مج ٢، ج ٣، ص ١١٣ - ١١٤.
(٢) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (٤٨)، مج ١، ج ٢، ص ٦٠، تعليقاً قبل الحديث (١٩٦١).
(٣) وذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: "دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: "لا تفعلوا، ازْرَعُوها، أو أَزرِعُوها، أو أمسكوها". قال رافع: قلت سمعاً وطاعة". صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (١٨)، مج ٢، ج ٣، ص ١٠١.الحديث (٢٣٣٩) وانظر ما ورد في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا المبحث. وهذا توجيه من التوجيهات لأحاديث النَّهي عن المحاقلة (كراء الأرض) تمّ انتقاؤه لمناسبته للموضوع، وهناك توجيهات أخرى منها ما ذهب إليه الإمام مالك من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن المحاقلة، والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة، وذهب البعض إلى أن النَّهي إنما هو عن كراء الأرض بما ينتجه جزء منها لمَا في ذلك من غرر، أما كراؤها بالذهب والورِق وما في حكمهما فلا مانع منه لإنعدام عنصر المخاطرة. انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص ١٦٦ - ١٦٧.

<<  <   >  >>