للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فظاهر الحديث حرمة خطبة المرء على خطبة أخيه مطلقاً من بداية الخطبة إلى أن يدعها، ولكن ورد في حديث آخر ما يخالف هذا، وهو ما رواه مالك عن فاطمة بنت قيس: "أن زوجها طلقها، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم، وقال: "إِذَا حَلَلْتِ فَآذنِينِي". قالت: فلمَّا حللت ذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا أبُو جَهْم فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمّا مُعَاويّة فَصعْلُوك لَا مَالَ لَهُ، انْكحِيِ أُسَامَة بن زَيْد". قالت: فكرهته، فقال: "انْكحِيِ أُسَامَة"، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به". (١)

فدلّ إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله على أن حديث النهي ليس على إطلاقه. أما الإقرار ففي قولها: "فذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان وأبا جهم خطباني"، فلم يعترض - صلى الله عليه وسلم - على كون أحدهما خطبها على خطبة الآخر بل أقره، وأما الفعل فخطبته إياها لأسامة ابن زيد على خطبة كلّ من معاوية وأَبِي جهم. فدلّ هذا على أن الخطبة المنهي عنها هي التي تكون بعد ركون المرأة لخطبة الأول. كما دلّ على أن الراوي لم يبيِّن المقام الذي قيل فيه حديث النهي، كأن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن رجل خطب امرأة فرضيته وإذنت في نكاحه، ثم خطبها غيره على خطبة الأول. (٢) فعدم نقل المقام الذي قيل فيه الحديث من قِبَلِ الراوي أدى إلى غموض في دلالة الحديث فاحتيج في بيانه إلى دلالة حديث آخر.

ومن فوائد معرفة المقصود بالأمر والنهي أن الأمر والنهي اللذان يُرَادُ بهما الرفق والرحمة يكونان في حكم الرخصة، إنْ وَجَدَ المكلّفُ في نفسه ضعفاً أخذ بظاهرهما وترخص، وإن وجد في نفسه قوة أخذ بالعزيمة ولم يلتفت إلى الرخص. (٣)


(١) الموطأ، ج ٢، ص ٩٨ - ٩٩.
(٢) انظر الشافعي: الرسالة، ص ٣٠٨.
(٣) انظر الشاطبي: الموافقات، مج ٢، ج ٣، ص ١١٧.

<<  <   >  >>